أخبار مصر

مفتي الجمهورية يهنئ الإخوة المسيحيين ..ويؤكد أن مصر صاحبة أعمقِ تجربة تاريخية ناجحةٍ في التعايش المشترك

هنأ فضيلة الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الإخوة المسيحيين في مصر وفي العالم أجمع بميلاد السيد المسيح عليه السلام، مؤكدا أن “احتفال المسلمين بميلاد السيد المسيح أمر مشروع لا حرمة فيه؛ لأنه تعبير عن الفرح به، كما أنَّ فيه تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من توقير وتقدير وتبجيل للسيد المسيح وأمه السيدة مريم عليهما السلام”.
وشدد مفتي الجمهورية – في تصريحات الليلة – على أن الفتاوى التي تحرم تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد السيد المسيح عليه السلام هي فتاوى قد عفَّاها الزمان ويجب ألا نلتفت إليها ونرفضها.
وأشار إلى أن دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف يسيران على منهجية واحدة في أن تهنئة إخوتنا المسيحيين بميلاد السيد المسيح هو من أبواب البر الذي أمرنا الله به في قوله تعالى: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”، لافتًا إلى أن القرآن الكريم أعطانا الدرس بأنه احتفى بميلاد السيد المسيح عليه السلام.
وأضاف: لا ريب أن مشاركتنا لشركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم وتبادل الفرحة معهم هي من قبيل السلام والتحية وحسن الجوار، وذلك مظهر من مظاهر البر والرحمة والتعامل بالرقي الإنساني الذي كان يفعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من جاوره أو تعامل معه منهم، وعلى ذلك سار المسلمون سلفًا وخلفًا عبر تاريخهم المُشَرِّف وحضارتهم النقية وأخلاقهم النبيلة السمحة التي دخلوا بها قلوب الناس قبل أن يدخلوا بلدانهم.
وأكد المفتي أن ميلاد الأنبياء هو ميلاد رحمة وسلام ومحبة للعالمين، وأن ذكرى ميلادهم هي مناسبات سعيدة على البشرية جمعاء نحتفل بها ونتذكر ما أرسلهم الله سبحانه وتعالى به من أخلاق وقيم من أجل صلاح الناس. والله سبحانه وتعالى ذكر ميلاد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهنأ به فقال سبحانه: “وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً”، مشيرًا إلى أن سيدنا عيسى نال خصوصية خاصة ومساحة واسعة في القرآن الكريم، وتم ذكره مرات كثيرة بيحث أنه يأتي في الرتبة الثانية من حيث عدد مرات ذكره في القرآن بعد سيدنا موسى عليه السلام.
ولفت إلى أن نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم طبَّق هو وأصحابُه الكرام مبادئ العيش السلمي المشترك في أرقى صوره، تنظيرًا وتطبيقًا في نماذج حياتهم كلها، مظهرين عدالة الإسلام وسماحته في التعامل مع المخالف في كل حال، وهذا يبرهن على رغبتهم في التعايش والحوار مع الآخر وليس الصدام والتضاد، فقد تفاعلوا مع المجتمع من غير المسلمين برغم تعرض بعض الصحابة للأذى.
وأوضح أنه عند استعراض المسيرة المباركة للنبي الأمين والصحابة الكرام نجد أنها تقدم أعلى صور التعايش، منها موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة بالذهاب للحبشة، ودعوته للبعض الآخر بالصبر على أذى المشركين مما يبرهن على أن الإسلام لم يُفرض بالقوة أو السلاح، بل دخله الغني والفقير والكبير والصغير، والقوي والضعيف؛ فكانت تركيبة فريدة من نوعها.
وتابع: بمصر صاحبة أعمقِ تجربة تاريخية ناجحةٍ في التعايشِ والمشاركةِ في الوطنِ الواحدِ بينَ أبنائها، فأهلُها على مدارِ تاريخهم لم يعرفوا أيًّا من مظاهر النزاع الطائفي؛ لأنهم أهل اعتدال وسماحة واحترام للخصوصيات الثقافية والاجتماعية والحضارية، وهي سمات نبيلة وقيم راقية.
وأكد مفتي الجمهورية أن التجربة المصرية تجربة فريدة فالنسيج الوطني بين جناحي مصر المسلمين والمسيحيين هو نسيج قوي ومتين لا يستطيع أحد أن يقطعه ما داموا في رباط ووحدة، ومعدن الشعب المصري يظهر دائمًا في تماسكه أمام التحديات الكبيرة التي نمر بها، وهو ما يفشل كافة المحاولات من قِبل الجماعات المتطرفة وغيرها التي تسعى للنيل من مصر.
وأضاف أن التاريخ المصري يؤكد أن كل هذه المحاولات عبر التاريخ كانت فاشلة ولم تؤثر أبدًا في الشعب المصري، وهو ما يؤكد أن الهوية المصرية الحقيقية محفوظة بترابط المصريين إلى يوم الدين، مشيرا إلى أن المصريين -مسلمين ومسيحيين- عاشوا على أرض مصر عبر التاريخ جنبًا إلى جنب؛ بيوتًا متجاورة، ومصالح مشتركة، وأهدافًا واحدة، متضامنين متحابين في سبيل الوطن، رخاءً وأمانًا، حربًا وسلامًا، حتى يئست منهم كل محاولات الوقيعة التي تتعمد نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار، فهؤلاء المغرر بهم لم يقرءوا التاريخ جيِّدًا ولم يعرفوا تلاحم هذا الشعب الصامد عبر العصور ضد الوقيعة.
وأردف: إن التاريخ الإسلامي لمصر أثبت أن سيدنا عمرو بن العاص لما دخل مصر وجد الرومان قد هدموا الكنائس ونفوا القيادات الدينية للمسيحيين، فعمل على إعادتهم إلى مناصبهم وعمارة ما كان قد دمِّر من كنائسهم، فيرشدنا التراث إلى فتوى الإمام الليث بن سعد عندما سأله الحاكم حينها عن حكم عمارة الكنائس في مصر، فقال: “إن الكنائس حادثة في الإسلام -أي بنيت في عهد المسلمين في مصر- وإنها من عمارة الأرض”.
وأشار المفتي إلى أن مصر على المستوى التشريعي منذ دستور عام 1923 وحتى دستور عام 2014 أكدت على المساواة بين المصريين كافة، فهم جميعًا سواسية أمام القانون والدستور ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وهو ما أدَّى إلى تمازج النسيج الوطني المصري وتماسكه.
واستطرد: إن النسيج المجتمعي المصري لم يميز بين مواطن وآخر، في منظومة متناغمة تحقق العيش المشترك الذي تحيطه المحبة والتسامح والسلام، مشيرًا إلى أنه تم تتويج هذا التاريخ الطويل بافتتاح مسجد الفتاح العليم وكنيسة ميلاد المسيح في نفس اليوم برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية وبحضور أكبر قيادتين دينيتين في مصر، وهي رسالة واضحة على أن المصريين جميعًا على قلب رجل واحد.
ولفت فضيلته النظر إلى أن دار الإفتاء المصرية قامت بدراسة رصدت مجموعة كبيرة من الفتاوى على الشبكة العنكبوتية، تم اختيار (5500) منها كعينة للدراسة؛ نظرًا لأن العديد منها يحمل نفس الموضوع، كالسؤال عن حكم تهنئة المسيحيين بعيدهم، أو حكم بناء الكنائس، وصنفت الفتاوى إلى موضوعات عامة تضم تحتها موضوعات خاصة مرتبطة بالموضوع أو مرتبطة بالحكم الشرعي، وأظهرت الدراسة أن 70% من فتاوى المتطرفين تحرم التعامل مع المسيحيين وأن 20% منها مكروه و10% فقط تبيح التعاملات، وهو ما يؤدي إلى هدم مبدأ التعايش والسلم المجتمعي، ويخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استقبل وفد نصارى نجران في المسجد وسمح لهم بالصلاة فيه.
وأردف قائلًا: هذه الدراسة وإن كانت تدل على عقلية متشددة ومتطرفة؛ ففي الوقت نفسه تتنافى تمامًا مع ما جاءت به نصوص الشريعة الإسلامية الصريحة والصحيحة من الحث على حسن المعاملة والعيش المشترك والتعامل معهم بالبر والقسط؛ انطلاقًا من المبدأ القرآني: “لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.
وأضاف أن غالبية هذه الأحكام التي خلصت إليها الدراسة تصطدم مع نصوص الشرع الشريف في التعامل مع غير المسلمين المسالمين المشاركين في الوطن فضلًا عن تجاهلها المصلحة العامة للأمة، وقد رددنا عليها وفندناها بما ثبت من أحكام شرعية ثابتة.
وأكد مفتي الجمهورية أن هذا الفعل يندرج تحت باب الإحسان الذي أمرنا الله عز وجل به مع الناس جميعًا دون تفريق، مذكرًا بقوله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وقوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ ، مستندا إلى النص القرآني الصريح الذي يؤكد أن الله تبارك وتعالى لم ينهَنا عن بر غير المسلمين، ووصلهم، وإهدائهم، وقبول الهدية منهم، وما إلى ذلك من أشكال البر بهم، وهو قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وقال فضيلة مفتي الجمهورية: “إن من ظنَّ انحصار رحمته صلى الله عليه وسلم في المسلمين خاصة فقد ضَيَّق واسعًا؛ لأن سعة رحمته كما كانت مع المسلمين، فقد كانت أيضًا في إقالة عثرات غير المسلمين والصفح عن جفائهم وغلظتهم، وذلك وصف مقرر ومعروف من خُلقه الكريم” مضيفا : “أن قضية الرسل تحتاج إلى مذاكرة وتحتاج إلى دراية وتحتاج إلى تبصر في واقع الأمر؛ تبصر في واقع التاريخ الإنساني؛ فسيدنا آدم عليه السلام لما نزل إلى الأرض جسَّد كل معاني الإنسانية منذ هذه اللحظة إلى قيام الساعة جسَّدها في قضية الطاعة لله عز وجل”.
وأكد أن دراسة تاريخ الأنبياء والرسل تعلمنا الأمل والاستبشار وعدم القنوط من رحمة الله؛ فالقنوط واليأس من رحمة الله تعالى كبيرة من الكبائر، حيث لا يجوز لأي إنسان أن يقول إن الله لا يغفر له، مشيرًا إلى أن القرآن الكريم حذر الإنسان أشد التحذير من اليأس والقنوط من رحمة الله.
وتابع: “إن الله أرسل الرسل والأنبياء حتى يستنير الناس ويمشون على الصراط المستقيم لأن البشرية يمكن أن تحدث لها هزات فتعود إلى سبيل الرشاد مرة ثانية، ولتصحيح مسار الفطرة النقية التي ولدوا عليها نتيجة التأثر بالبيئة وغيرها من المؤثرات يرسل لهم سبحانه وتعالى الرسل والأنبياء”.
وعن الفرق بين النبي والرسول قال فضيلته كلاهما يوحى إليه، فالرسول مكلف ومبلغ من الله أما النبي فيوحي إليه ولكنه ليس مأمورًا بتبليغ ما أنزل الله إليه.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الأنبياء والرسل هم مشاعل النور والهداية للبشرية وأما عن عددهم فهو غير معروف على وجه التحديد؛ فقد أفصح القرآن الكريم عن خمسة وعشرين رسولًا منهم خمسة من أولي العزم من الرسل هم: سيدنا نوح، وسيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى، وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد عليهم صلوات الله وسلامه، والمراد بأولي العزم من الرسل: المتصفون منهم بالصبر والثبات وتحمل الشدائد في سبيل إعلاء كلمة الله أكثر مما تحمل غيرهم من الأنبياء والمرسلين.
وأما عن عدم تسمية جميع الأنبياء والرسل الآخرين أو عدم ذِكر تفاصيل الأحداث التاريخية المتعلقة بهم فقال مفتي الجمهورية نحن لا نحتاج لمعرفتها، فما يحتاجه التشريع أو نحتاج إليه تم ذكره، مع كامل التقدير والاحترام لجهود علماء التاريخ والآثار والتي هي من علامات السير في الأرض والتأمل فيها، فهي لها فوائد أخرى لا تفيد في تفاصيل التشريع أو في الأسوة والاقتداء كتفصيل ذِكر أسماء أهل الكهف مثلًا، فنحن نحتاج إلى المناهج أكثر من التفصيلات التاريخية.
ولفت المفتي إلى أن من يلاحظ منظومة النبوة والرسالة يجد أنها بناء متكامل الأركان والمعاني فكل واحد منهم يؤدي إلى الآخر ويتكامل معه من حيث المبنى والمعنى، فكانت جميع الرسالات السماوية تدعو إلى المحبة والسلام والبناء وتهذيب النفس، وكل ذلك لا يكون إلا بالقلب السليم. وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: “مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين”. مؤكدًا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي اللبنة الأخيرة التي أكملت الرسالات واختتمتها لكي تبقى البشرية موصولة بهذا الوحي الإلهي.
وأشار إلى أن رسل الله جميعًا أرسلهم الله بمبادئ كليه، وهي ما عبر عنها علم أصول الفقه بـ “الكليات الخمس” منها: حفظ الأنفس والدين والأعراض والأموال والعقل، ولعمارة الأرض ونشر الرحمة، وهي القيم التي يشترك فيها جميع الأديان السماوية ، مضيفا أن الشرائع السماوية بمجملها منذ سيدنا آدم وحتى سيدنا محمد نجد أن الكل يدعو إلى الله والإيمان به والأخلاق الكريمة؛ فالرسالة واحدة لإدارة حركة الحياة في هذه الأرض، ولكي يؤدي الإنسان الرسالة التي خُلق من أجلها وهي عمارة الأرض، وأن الأنبياء جميعًا بعثهم الله لينشروا السلام والبناء والعمران وينيروا الطريق أمام البشرية في كل زمان ومكان.
وحول أسباب ظهور الصراعات بين بعض أتباع الأديان رغم القيم المشتركة التي جاء بها الأنبياء، أوضح مفتي الجمهورية أن ذلك يرجع إلى أن بعض أتباع الأديان قد ابتعدوا عن الأخلاقيات والقيم المشتركة التي جاء بها الرسل وابتعدوا عن تعاليمهم، وفي المقابل أصبح هناك من يغذي الصراع والعنف والكراهية والمفاهيم الخاطئة حتى يصبح الجميع في صراع، مؤكدًا أن على أتباع الرسل أن يوجدوا أرضية مشتركة يسودها المحبة والتعاون والمودة والعيش المشترك.

الدكتور شوقي علام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *