أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: فرنسا والعرب من نابليون إلى ماكرون

عند رحيل الحملة الفرنسية من مصر بعد سنوات قليلة كان الأثر الثقافى قد تغلغل فى أعماق المصريين

تضرب العلاقات العربية الفرنسية بجذورها فى أعماق التاريخ، فقد كانت فرنسا شريكا قويا فى الحملات الصليبية ثم تواصل علماؤها ومفكروها مع حركة الاستشراق من أولئك الفرنسيين الذين توافدوا على المنطقة بفضول المعرفة والرغبة فى فهم الإسلام والعروبة.
وتواصلت العلاقات الوثيقة بين العرب والفرنسيين لأسباب تتصل بالتقارب الجغرافى، إذ إن فرنسا دولة فى حوض البحر المتوسط الذى تطل على شرقه وجنوبه دول عربية عدة فى آسيا وأفريقيا، وتميزت تلك العلاقات بخصوصية واضحة عندما صحا المصريون على أصوات مدافع نابليون وحملته الشهيرة، فكانت تلك هى بداية الوجود المباشر للفرنسيين فى دولة عربية جنوب المتوسط وهى مصر.
وعلى الرغم من عنف قوات نابليون وحلفائه والغلظة التى أبدوها فى إخماد ثورتى القاهرة الأولى والثانية، إلا أننا نعترف أن الحملة لم تكن حملة عسكرية بحتة ولكنها كانت حملة ثقافية أيضا، إذ أحضر نابليون معه علماء من مختلف فروع المعرفة وهم الذين سجلوا الحياة المصرية فى جميع مناحيها وكتبوا فى بداية القرن التاسع عشر «وصف مصر»، أشهر الكتب حولها. كما أنها الحملة ذاتها التى تمكّن أحد أفرادها وهو شامبليون من اكتشاف حجر رشيد وفك رموزه وبذلك فتح الباب على مصراعيه لفهم الحضارة الفرعونية الملهمة لكل حضارات الأرض.

قامات مصرية يجمعها التأثر بفرنسا
عند رحيل الحملة الفرنسية من مصر بعد سنوات قليلة، كان الأثر الثقافى قد تغلغل فى أعماق المصريين حتى إن الحاكم القوى الذى تولّى عام 1805 وهو رأس الأسرة العلوية محمد على باشا قد أوفد الطلاب النابهين للدراسة بالخارج فى بعثات الدولة إلى فرنسا بالدرجة الأولى لأنه أدرك خصوصيتها فى علاقاتها بالعرب والمسلمين، وقد أوفد محمد على أحد الدعاة لكى يكون إماما لواحدة من البعثات التعليمية وكان ذلك الأزهرى المجتهد هو رفاعة الطهطاوى الذى عاد بمشاعر إيجابية لا تخلو من الدهشة تجاه حياة الفرنسيين وكان كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» بداية التنوير الحقيقى فى تاريخ مصر الحديثة. فالاستنارة المصرية المرتبطة بالحضارة الأوروبية قد تولّدت بالدرجة الأولى من العلاقات بفرنسا والتأثر الثقافى بها.
وسنجد أن الخلاصة الفكرية للقامات الكبيرة فى الفكر المصرى الحديث مرتبطة فى معظمها بفرنسا وثقافتها وأسلوب الحياة فيها بدءًا من رفاعة الطهطاوى وصولا إلى طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم من الأعلام البارزة فى تاريخ مصر الحديثة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد إذ إن فرنسا قد قامت بغزو ثقافى فوق البوارج العسكرية لمعظم دول شمال أفريقيا وجثمت على صدرها سنوات طويلة حتى كانت حرب التحرير الجزائرية علامة كبرى فى تاريخ حركات التحرر الوطنى ورفض سياسة الاحتواء الفرنسية القائمة على التغلغل الثقافى بالدرجة الأولى ثم إحكام السيطرة على الدول لصالحها.
ويهمنى هنا أن أوضح عبر النقاط التالية مراكز التواصل ومحطات الالتقاء الفكرى بين العرب والجمهورية الفرنسية، وأوجزها كالتالى:
أولا: إن الحملة الفرنسية كما أسلفنا كانت هى بداية التماس المباشر بين دولة عربية إسلامية بوجود فرنسى وفد إليها فى حملة عسكرية ذات طابع استعمارى فى مرحلة التنافس بين فرنسا وبريطانيا على دول ما وراء البحار، فسبقت حملة نابليون حملة فريزر البريطانى بسنوات عدة ولكن خطورة الوجود الفرنسى كانت كامنة فى الانتشار الثقافى ومحاولة الدخول إلى المجتمع المصرى والتسلل إلى العقل المسلم، ولقد أبرزت كتابات عبدالرحمن الجبرتى دهشته الشديدة من حياة الفرنسيين بدءًا من القنابل التى كان يسمّيها «القنبر» وصولا إلى السيدات المتبرجات على نحو لم يعرفه المصريون من قبل.
وعلى الرغم من أن نابليون حاول أن ينافق الإسلام والمسلمين فى البداية إلا أن سنابك خيله دخلت إلى صحن الأزهر الشريف فى محاولة للعبث بمقدسات المسلمين من دون النظر إلى مشاعرهم الدينية من جانب ذلك الغازى الآتى من أوروبا لكى يبشّر بعصر مختلف وعهد جديد، وستظل المقاومة المصرية الباسلة مدعومة بقوة عربية محل اعتزاز كبير حتى إن شابا من حلب كان يدرس فى الأزهر هو سليمان الحلبى، اغتال كليبر، القائد الثانى للحملة الفرنسية على مصر، وذلك يعنى ببساطة أن هناك رأيا عاما مصريا قد جرى خلقه فى سنوات قليلة مع بداية القرن الثامن عشر، وقد تأثر المثقفون المصريون بسياسة الاستيعاب الفرنسية وأرسلت الطبقات الراقية أولادها للدراسة فى المدارس والجامعات الفرنسية حتى إن القانون المدنى المصرى قد تأثر إلى حد كبير بقانون نابليون Code Napoléon، بل أحاط أولاد محمد على أنفسهم بحاشية يتقدمها دائما الفرنسيون حتى أقنع أحدهم وهو دليسبس، الوالى محمد سعيد بمشروع قناة السويس فكانت فرنسا دائما حاضرة مع الأحداث الكبرى والأفكار الملهمة منذ ذلك الوقت.

علاقة جدلية لا يمكن حسمها
ثانيا: إن علاقة دول المغرب العربى بفرنسا علاقة جدلية لا يمكن حسمها بسهولة لأنها تعنى ببساطة ذلك الخلط الذى جرى فى ظل حالة الاندماج التى سعت إليها فرنسا بدءًا من محاولة فرنسة الجزائر مرورا بالصدام مع المغرب والتغلغل الثقافى فى تونس، ولن أفيض فى ذلك كثيرا، فهذه أمور معاصرة معروفة للجميع ولكن الذى يعنينى هو وجود تلك القوة الجدلية بين العرب وفرنسا التى جعلت هناك مزيجا من الحب والكراهية ومن الانفتاح والتحفظ، ويجب أن أشير هنا إلى أن الإسلام يسبق فى تأثيره المشاعر العروبية لدى عرب شمال أفريقيا حتى إن الجزائريين فى حربهم من أجل التحرير كانوا يعتصمون بإسلامهم دون عروبتهم لأنهم كانوا يتحدثون لغة المحتل ويتعاملون وفقا لثقافته.
وهنا نلفت إلى أن علاقة فرنسا بالإسلام تختلف عن علاقات أوروبا المسيحية به، فهم تعايشوا مع شعوبه وارتبطوا بعلاقات وثيقة مع مؤسسات إسلامية بحكم وجود ما يصل إلى أربعة ملايين مسلم وعربى فى الدولة الفرنسية حتى إن الإسلام هو الديانة الثانية فى تلك الدولة الأوروبية المحورية المؤثرة فى علاقات أوروبا بدول الشرق والتى تبدو وكأنها جسر للتواصل بين أوروبا والشرق العربى الإسلامى.
ثالثا: لا بد من أن نشير هنا إلى خصوصية العلاقات الفرنسية اللبنانية منذ حاول اللبنانيون تحديد هويتهم الفرعية فى إطار المذهب المارونى للتفرّد بدولة لبنان بعيدا من صراعات الشام الكبير والخلافات المتعددة فيه، ولعلنا نتذكر الزيارتين المتتاليتين ــ تفصل بينهما أيام قليلة ــ عندما قام رئيس الجمهورية الفرنسية الحالى ماكرون بزيارة لبنان بعد التفجير الشهير الذى هز بيروت فى صيف 2020، فأصبحنا نرقب الموقف الفرنسى المدافع بشدة عن الشعب اللبنانى بألوانه وأطيافه المختلفة، فى وقت زعم البريطانيون أنه إذا كانت فرنسا هى حامية «الموارنة»، فإن بريطانيا هى حامية «الدروز» بينما مصر والسعودية هما الملاذ الآمن لأهل السنّة على اعتبار أن حزب الله يستأثر رسميا بالتحدث تعبيرا عن المذهب الدينى لأعضائه وخدمة للسياسة الإيرانية فى المنطقة.

مدرسة ديجول
رابعا: سيظل شارل ديجول هو العملاق مظهرا وجوهرا فهو قائد حركة التحرير الفرنسى ضد النازى وهو الذى وقف فى شجاعة أمام استمرار الحرب الجزائرية الفرنسية وأعطى تلك الدولة الأفريقية العربية المسلمة استقلالها بعد مائة وثلاثين عاما من احتلالها، كذلك نذكر له دائما أنه الرئيس الفرنسى الذى قال عام 1967 إن الذى سيبدأ بالعدوان ضد الطرف الآخر فى الشرق الأوسط، فإن فرنسا ستتوقف عن إمداده بالسلاح، وقد ظل الرجل على موقفه حتى إنه نعى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى بيان مؤثر وقد رحل هو بعده بأشهر قليلة.
إن العلاقات العربية ــ الفرنسية علاقات دافئة، ويظل العامل الثقافى هو جسر التواصل القوى بين العرب وفرنسا عبر القرون بدءًا من المواجهات العسكرية العنيفة فى حرب الفرنجة حول بيت المقدس حتى الموقف الفرنسى المتوازن فى الصراع العربى الإسرائيلى والمستقل عن الولايات المتحدة نسبيا فى إطار السياسات الأوروبية وعلاقات الاتحاد الأوروبى بأمريكا.

تضرب العلاقات العربية الفرنسية بجذورها فى أعماق التاريخ، فقد كانت فرنسا شريكا قويا فى الحملات الصليبية ثم تواصل علماؤها ومفكروها مع حركة الاستشراق من أولئك الفرنسيين الذين توافدوا على المنطقة بفضول المعرفة والرغبة فى فهم الإسلام والعروبة.
وتواصلت العلاقات الوثيقة بين العرب والفرنسيين لأسباب تتصل بالتقارب الجغرافى، إذ إن فرنسا دولة فى حوض البحر المتوسط الذى تطل على شرقه وجنوبه دول عربية عدة فى آسيا وأفريقيا، وتميزت تلك العلاقات بخصوصية واضحة عندما صحا المصريون على أصوات مدافع نابليون وحملته الشهيرة، فكانت تلك هى بداية الوجود المباشر للفرنسيين فى دولة عربية جنوب المتوسط وهى مصر.
وعلى الرغم من عنف قوات نابليون وحلفائه والغلظة التى أبدوها فى إخماد ثورتى القاهرة الأولى والثانية، إلا أننا نعترف أن الحملة لم تكن حملة عسكرية بحتة ولكنها كانت حملة ثقافية أيضا، إذ أحضر نابليون معه علماء من مختلف فروع المعرفة وهم الذين سجلوا الحياة المصرية فى جميع مناحيها وكتبوا فى بداية القرن التاسع عشر «وصف مصر»، أشهر الكتب حولها. كما أنها الحملة ذاتها التى تمكّن أحد أفرادها وهو شامبليون من اكتشاف حجر رشيد وفك رموزه وبذلك فتح الباب على مصراعيه لفهم الحضارة الفرعونية الملهمة لكل حضارات الأرض.

مصطفى الفقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *