أخبار مصر

مصطفى الفقى يكتب: الشخصية الوطنية للأقطار العربية

تتميز شعوب الأمة العربية بدرجة من التنوع ونمط من التعددية يعطيها فرادة وتألقا، إذ يكفى أن تتحدث مع عراقى ثم تستمع إلى مغربى فيتدخل المصرى بأمزوحة ساخرة، لتشعر بتلك التعددية وذلك التنوع، ثم ترى ابن شمال أفريقيا بـ«الجلباب» و«الزعبوط» وابن الخليج بـ«الغترة» و«العقال»، لكى تدرك تأثير التنوع البيئى وتميز الأنماط الثقافية بين أبناء الأمة الواحدة، ولا ينتقص ذلك بالطبع من الدرجة العالية للانصهار القومى والفهم المشترك، على الرغم من الاختلاف فى التفاصيل والتعدد فى المظاهر، سواء فى اللهجات أو الأزياء أو الأطعمة، ولقد سمعت أحد علماء الاجتماع العرب يقول، «إن كل ما هو شرق الإسكندرية ينتمى إلى حضارة الأرز، وكل ما هو غربها ينتمى إلى حضارة الكُسكس». وقد يكون ذلك صحيحا فى مجمله، ولكن من دون تحديد قاطع، فالعربى من كل قُطر يستسيغ الطعام من مطابخ القطر الآخر ويلتقط اللهجات بأذن ذكية، حتى أن اليمنى والسورى والسودانى والجزائرى يمكن أن يضحكوا لنكتة مصرية واحدة، والغريب فى أمر أمتنا أنها تملك إرثا حضاريا كبيرا، وتحمل على كاهلها تجارب ثرية من تراكم الحضارات وتداخل الثقافات وممارسة الأديان الإبراهيمية الثلاثة، مع اعترافنا بشيوع الإسلام فى المشرق والمغرب أكثر من أعداد المسيحيين العرب، الذين يشكلون ظاهرة ثمينة فى الصف العربى كله، فضلا عن بؤر يهودية قليلة تبدو قريبة من مفهوم العروبة بمنطق التاريخ والجغرافيا، كما تبدو بعيدة من العقيدة الصهيونية بحكم الانتماء القومى، واستهجان التوجهات العنصرية السائدة فى عصرنا. ولقد أغرانى بالكتابة فى هذا الموضوع ما شهدته دائما فى أروقة العمل العربى المشترك وعلى شاشات السينما وخشبات المسرح، فضلا عن ذلك العدد الكبير من محطات التلفزيون الفضائية، التى أصبحت تغطى الاتجاهات جميع وترضى كل الأذواق، ولا شك أن ذلك التنوع وتلك التعددية هما نعمة للعرب وليسا نقمة عليهم، فلقد أثبتت الدراسات الحديثة أن التنوع والاختلاف يمثلان قاطرة تشدّ الأمم نحو المستقبل وتدفع الشعوب إلى الأمام، وإذا أردنا أن نقسّم الوطن العربى إلى أقاليم ثقافية، فسنجد أن درجة الانصهار والانسجام تحول من دون ذلك، ولكن الأمر لا يمنع فى الوقت ذاته من الإحساس بدرجة عالية من التألق القومى نتيجة تلك الاختلافات، حتى ولو كانت فى التفاصيل وحدها، وتلك الأقاليم نستعرضها فى إيجاز على النحو التالى:
أولا، تشمل المنطقة العربية أقاليم مختلفة ما بين نهرية Cult of River وأخرى صحراوية Cult of Desert، وفى الحالتين فإنها تملك تعددية فى الجغرافيا الطبيعية ليست متاحة لمناطق أخرى فى العالم، وبذلك جمعت الدول العربية المختلفة بين حضارة المدينة وحضارة البادية، وتمكنت فى النهاية من استخراج توليفة مميزة صنعت رونقا خاصا لدول عدة فى العالم العربى، لذلك فإن التعددية بمعناها العام لا تنسحب على الاختلافات الثقافية أو العرقية، ولكنها تنصرف أساسا إلى التميز الطبيعى بين دول المنطقة.
ثانيا، لكل إقليم فى العالم العربى طابعه الخاص، فمصر بالقلب تتوسط الجناحين المشرق والمغرب، بينما إقليم الشام الكبير يقدم نموذجا مختلفا تداخلت فيه التأثيرات التركية بل وبحر المتوسطية مع تأثيرات عروبية قادمة من الجزيرة العربية والتخوم الآسيوية، خصوصا بلاد فارس وما جاورها، لذا فإن المزيج السكانى أعطى سوريا الكبرى أو الشام الكبير شخصية متفردة، تبدأ من نوعية الطعام المستمد من المطعم التركى، وصولا إلى الطرب الذى دخل إليها من حلب غربا وموصل العراق شرقا، فأصبح الشام مستقرا للفنون والآداب والأشعار والأذكار، ثم انتقلت الهجرة الثقافية من الشام إلى مصر فازدهرت الآداب وارتقى المسرح وتطورت الموسيقى، ثم ظهرت السينما بحكم ذلك التزاوج الفكرى والثقافى الذى شمل المنطقة بأسرها، وجعل مصر مستقرا للتنوير المنطلق منها أو القادم إليها، وتشابه الطرب العربى فى المنطقة كلها بدءا من القدود الحلبية مرورا بالطقاطيق المصرية، ثم ظهرت فى لبنان بتألقها الواضح وأناقتها المتفردة، لذلك فإن العالم العربى يعرف التنوع من كل مصادره.
ثالثا، ينفرد الخليج امتدادا للجزيرة العربية بسمات خاصة مستمدة من تاريخ العروبة والقبائل الكبرى والعشائر المنتشرة، التى جعلت تلك المنطقة مميزة بروح العروبة الخالصة، منذ أن ظهرت دولة الغساسنة كحاجز بين الجزيرة العربية والشام، ودولة المناذرة كحاجز على الجانب الآخر بين العرب والفرس، وفى كل الحالات فإن العروبة الخالصة التى تتميز بها معظم القبائل والأفخاذ تمثل فى مجموعها سبيكة خاصة تجمعها قاعدة من التشابك الذى تنفرد به عن غيرها، بحيث تتميز بدرجة من التجانس الذى تجسد فى مجلس التعاون الخليجى. ولا يخفَ على أحد أن ظهور النفط فى الجزيرة والخليج قد أضاف إليهما دورا دوليا كبيرا، وجعلهما فى الوقت ذاته محط أنظار ومركز أطماع من القوى الكبرى، ولكن تلك الدول المميزة اقتصاديا استطاعت أن تحافظ على وجودها على الرغم من كل التحديات والمواجهات والأزمات.
رابعا، لا يمكن أن نتحدث عن قلب العالم العربى متجاهلين الشخصية ذات الخصوصية لدولتى حوض النيل مصر والسودان، وكيف ارتبط تاريخهما المشترك عبر السنين، بحيث ازدهرت بهما الثقافات واتصفت بدرجة عالية من الانصهار السكانى والتناغم الاجتماعى، وعلى الرغم من «الأسافين» التى دقتها بريطانيا بين مصر والسودان، إلا أن التماسك بينهما جعل وحدة وادى النيل حقيقة سكانية لازالت صامدة على الرغم من كل الظروف المعادية من اتجاهات متعددة، وظل ذلك الإقليم معبرا بين العروبة والأفريقية، وأصبح مزيج سكانه نمطا مشتركا من الاثنين معا، وهنا يجب ألا نتجاهل حقيقة أن ثلثى العرب يعيشون فى القارة الأفريقية، ولا شك فى أن التداخل بين الأفارقة والعرب قد ترك بصماته على السكان، لا فى وادى النيل وحده، ولكن فى شمال أفريقيا أيضا حيث الارتباط القوى بين الدول العربية فى الشمال ودول غرب القارة لأسباب تاريخية وثقافية، فضلا عن تداخلات متبادلة بين الجانبين.
خامسا، إن دول المغرب العربى بتجانسها الواضح وتاريخها المشترك، وتعرضها للوجود الأجنبى خصوصا الفرنسى ثم الإسبانى والإيطالى فى تلك الدول المميزة المطلة على الساحل الجنوبى للبحر المتوسط، وهى المعروفة بتداخل ثقافى من نوع آخر يربط بين الفرنسية فى جانب والثقافة العربية فى جانب آخر، حتى أننا أحيانا ندهش للهجة المشتركة بين الثقافتين، وهى دول شديدة المراس بتكوينها، كما أنها تتمتع بدرجة من التنوع الرائع.
وعلى الرغم من أن المغرب والجزائر وتونس ومعهم ليبيا وموريتانيا تشكل معا ما يعرف بالاتحاد المغاربى، إلا أن الخصوصية الذاتية لكل دولة تعطيها مذاقا خاصا، بل إننى أضيف إلى ذلك أن دولة مثل المغرب تملك عددا من المدن كالرباط ومراكش ومكناس والدار البيضاء وطنجة وفاس وغيرها، وكل منها له طابع خاص، لذلك ارتبطت تلك المنطقة بأوروبا حيث المسافة قصيرة نسبيا، بل إننى أتذكر أننى كنت ذات يوم فى طنجة على الساحل المغربى، وكنت ألمح على الجانب الآخر، ولو بصعوبة، الشاطئ الأوروبى، ولا زالت هناك جيوب إسبانية داخل المغرب فى «سبتة» و«مليلية»، وبذلك نجد أن التنوع فى منطقة شمال أفريقيا يعطى مذاقا خاصا لدول تلك المنطقة، ويجعلها بحق الجناح الغربى للأمة العربية.
هذه هى أمتنا بتنوعها وتعدديتها وفرادتها فى آن واحد، فهى مستودع ثقافى لكل من أراد أن يدرس الجغرافيا السياسية بل والاقتصادية أيضا، لذلك فإننا لا نغالى عندما نتحدث عن الشخصية الوطنية للأقطار العربية.

نقلا عن إندبندنت عربية

نقلا عن إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *