آراء وتحليلات

العيدية من ذكريات الطفولة والصبا

بقلم د. عماد عبد الرؤوف الرطيل

 

تعلقت بأيدى والدي فى اليوم الثانى لأحد الأعياد وأظنه كان عيداً للفطر وهو يهم بالخروج لتقديم وتبادل التهنئة لأصدقائه وزملاؤه سواء فى العمل أو خارجه، حيث جرت العادة أن اليوم الأول مخصص للأهل بدرجاتهم المختلفة من حيث القرابة وكذلك الجيران والمعارف، وبعد إلحاح وافق والدي أن يصطحبنى معه مما جعلنى غاية فى السعادة والإنشراح، فقد كانت مصاحبة والدي لها متعه ومذاق خاصين بالنسبة لى فكنت أنتهز فرصة الإختلاء به لكي أمطره بوابل من الأسئلة التى كثيراً ما تعن لى وتلح على ولا أعرف لها إجابة. وكان رحمه الله يقابل تلك الأسئلة برحابة صدر ويجيب عليها مع تبسيط ما هو صعب ومعقد، وأنا أتلقى إجاباته بشغف شديد وسعادة بالغة وكل سؤال لديه إجابه له وكانت إجاباته تمنحنى شعوراً بالزهو لمعاملتى كأننى شاب كبير ويافع من جهة وزيادة لرصيد معلوماتى وثقافتى من جهة أخرى. فقد كان رحمه الله واسع الثقافة محباً للقراءة وهو المعلم الأول الذى تذوقت معه جزالة اللفظ وحلاوة المعنى لأنه يتقن اللغة العربية بالإضافة إلى الإنجليزية.

تعددت لقاءات والدى فى هذا اليوم وتنوعت بين أصدقاؤه وزملاؤه فى المصلحة، وكانت آخر اللقاءات مع صديق له يعمل محاسباً قانونياً وله مكتب ذات سمعة حسنة ومثل هذه الأعمال والقائمين عليها عدد قليل فى المدينة نظراً لصغر حجم الأعمال والأنشطة المختلفة، وكانت هذه أول مرة أقابل صديق والدى هذا وهو رجل طويل القامة مهيباً ضخم الجثة له كرش كبير مستديربدون ترهل ويبدو السبب فى هذا كثرة جلوسه إلى مكتبه ساعات طويلة حيث لغة الأرقام ومقادير الربح والخسارة وما إلى ذلك. وكان والدى يقضى معه الفترة المسائية وأحياناً يمد له يد المساعدة فى كتابة التقارير التى تتطلب لغة عربية رشيقة تخفف من حدة الأرقام وقسوتها، وأحياناً ما كانت هذه التقارير تحتاج للكتابة على الآله لكاتبة وهى إحدى المهارات التى يتقنها والدى والتى كان لها السبق فى هذا الزمان قبل اختراع الكمبيوتر وسطوته التى ذهبت بالآله الكاتبة إلى غياهب التاريخ وأسدل عليها الستار كما أسدل من قبل على الطرابيش.

احتفى بى صديق والدى حفاوة بالغة ودعانا للجلوس على إحدى المقاهى وطلب لى كوباُ من السحلب الفاخر المزود بأنواع المكسرات الفاخرة الشهية والطازجة، والحق أنها جاءت فى وقتها حيث كان الجو بارداً لأن الأعياد كانت تأتى فى ستينيات القرن الماضى فى الشتاء، ولكن دفئ المشاعر وحرارة اللقاءات بين الناس كانت كفيلة بإذابة جبال من الجليد. وبعد أن فرغت من إرتشاف كوب السحلب اللذيذ وهم والدى وصديقه بالإنصراف، وقفا يتجاذبان ما سوف يتم عمله بعد إنقضاء إجازة العيد. وعند الإنصراف مد صديق والدى يده ليصافحنى فممدت يدى وإذ به يقبض على معصمى بيده اليسرى ويضع يده فى نفس اللحظة فى جيب الصديرى أسفل جاكيت البدلة ثم أخرج منه قطعة معدنية مستديرة كأنها طبقاً طائراً وخيل إلي أنها بحجم قرص الشمس الذى ظهر وهاجاً بعد أن انقشعت سحابه قاتمة كانت تحجبه وصادف إنعكاس أشعة الشمس نفس وقت خروج القطعة المعدنية من جيب الصديرى الذى أدى إنعكاسها على تلك القطعة إنبعاث وهج أبيض ناصع إنعكس على عينى وذهب ببصرى لثوان وعندما عاد بصرى رأيت والدى وصديقه يضحكان وطلب منى أن أمد يدى لألتقط القطعة المعدنية وهو يردد قائلاً “كل سنة وأنت طيب يابنى” فنظرت لوالدى فأومأ بالموافقة، فمددت يدى وإذا بالقطعة المعدنية تسقط فى يدى كجلمود صخر حطه السيل من على، وأحسست بثقلها ولم أستطع إغلاق كفى الصغير عليها وعندما نظرت إليها وجدتها قطعة نقود علمت بعد ذلك أنها قطعة من الفضة وقيمتها عشرون قرشاً أى ريال فضة كما كان يطلق عليه.

وقتها لم أدرك الفرق بين الفضة وباقى المعادن وكل ما إنتابنى من شعور هو الزهو والخيلاء بأنى أمتلك ثروة فى شكل الريال الفضة وبشئ من التلقائية حاولت أن أضعه فى جيب الساعة الذى كان من لوازم تفصيل بنطلونات تلك الأوقات حيث نضع به القطع المعدنية الصغيرة من تعريفة مروراً بالقرش حتى الشلن، أما لكبار السن فكان ملاذاً آمناً لساعات الجيب ذات الكاتينه قبيل انتشار ساعات المعصم. استعصى حجم الريال فى الدخول إلى جيب الساعة الخاص بى وباءت محاولاتى بالفشل ولاحظ والدى إمارات الحيرة التى بدت على وجهى فأبتسم وطلب منى أن يحمل عنى تلك الثروة على أن يسلمها لى عند وصولنا إلى المنزل.

وطوال الطريق ولعدة مرات أفلت يدى من يد والدى لكى أقفز فرحاً مردداً أغنية فيروز فى فيلم دهب “معانا ريال معانا ريال”. وطالما رجوت والدى بالإسراع حتى نصل للمنزل لكى أخبر والدتى وأختى وأخى بما حصلت عليه من ثروة طائلة ولما لا فقد كانت أكبر عيدية أتلقاها وأنا فى هذه السن ومنذ أن بدأت فى تلقى العيديات وأكاد أجزم أنها تفوق ما يحصل عليه أقرانى من أبناء الطبقة المتوسطة من عيدية. استقبلنتى والدتى وأخوتى وعلى وجوههم علامات استفهام لما شاهدوه من تعابير الفرح الزائدة التى تبدو على وجهى وكذلك ابتسامة أبى الذى قطع هذا المشهد بأن أخرج الريال من جيبه وأعطاه لوالدتى قائلاً “اتفضلى يا ستى عيدية أبنك الذى أصبح ريالنير” وأندهش الجميع ثم أنفجرنا ضاحكين عندما قبضت والدتى على الريال وقالت لى “سوف أحفظه لك حتى لا يضيع منك” فوافقتها وشكرتها. وكان هذا آخر عهدى بالريال فلم أره منذ ذلك اليوم وحتى الآن وبعد أن توقف سك هذا النوع من العملات فى سيتنيات القرن الماضى والذى كان من بقايا العهد الملكى.

 

مع تحياتي

دكتور عماد الرطيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *