آراء وتحليلات

عربـــــــــــــية ســــــــــلامة..  من ذكريات الطفولة والصبا

بقلم د. عماد عبد الرؤوف الرطيل

وفر لنا سطح العقار الذى كنا نسكن فيه مميزات كثيرة وأنشطة متعددة ومن أهم هذه المميزات أنه وفر لنا ملاذاً أمناً من اللجوء إلى اللعب فى نهر الطريق الغير آمن من ناحية والمسبب للإزعاج للسكان والمارة من ناحية أخرى. كما أغنانا عن اللجوء للنوادى أو الساحات الشعبية وغيرها من أماكن اللعب واللهو. فقد أتاحت المساحة الهائلة التى يشغلها السطح والتى تقدر ب 500 متر مربع والتى غطت أرضيته بالبلاط المزايكو المتساوى ويحيط به سور متوسط الارتفاع ويعلو بئر السلم غرفة مسقوفة تغطيه تماماً تقسم السطح إلى جزئين متساويين. الجزء الأول أقام به بعض سكان العمارة أماكن لتربية الطيور “عشش” وما تبقى منه عبارة عن مساحة ليست بالقليلة تسمح لنساء العمارة بالجلوس فيها وخاصة فى فصل الشتاء لينعموا بقسط من أشعة الشمس الدافئة ومتابعة ورعاية طيورهم كلاً فيما يخصه.

كما كانت هذه المساحة متنفساً لهن فى ليالى الصيف هرباً من حرارة الجو فى وحداتهم السكنية ليتسامرون ويتبادلون الذكريات ويشاركهم فى هذه المساحة فتياتهم اللاتى كانت لهن الألعاب الخاصة بهن من الأولى أو الحجلة وطوق الهيلاهوب الذى كان منتشراُ فى تلك الأوقات. أما الجزء الثانى فكامل مساحته مخصص لأطفال العمارة من البنين لممارسة شتى أنواع الرياضات ككرة القدم والشبكة والصياد والمصارعة والملاكمة التى تتناسب مع أعمارهم. كل هذا أتاح لأطفال العمارة أن يقتربوا جداً من بعضهم البعض ويقضوا الساعات الطوال فى لهو برئ وسعادة طفولية خالية من المسؤلية والهموم. وبالرغم من هذا الصفاء الظاهر والوداعة البادية على الوجوه إلا أن الأمر لم يكن بمنأى عن نشوب بعض المشاحنات الناتجة عن حساسيات اللعب من نصر أو هزيمة مع بعض المعايرات والكيد لتلك الهزائم والاخفاقات، كما لا يمنع من وجود بعض الأطفال من ذوى الدم الثقيل ومحبى الذات والأنانية، لكن يتم احتوائها سريعاً وتذوب تحت حرارة المحبة ودفء المشاعر.

هذا هو الحال فى سائر الأيام التى تمر تباعاُ. وخلال تلك الأيام كانت هناك أوقات ننتظرها بشغف ونترقبها بكل لهفة وإشتياق هذه الأوقات تتمثل فى زيارة من آن لآخر لأحد أقرباء ساكنى العمارة وهي “الست أم حمودة” وهو سلامة المجند بأحدى الوحدات العسكرية بقسم الحملة التى تشرف على صيانة وقيادة عربات الوحدة. وكان سلامة يقود إحدى هذه العربات وهى من نوع الجيب الإنجليزى القديم الكبير الحجم وليس النوع الصغير المخصص للقادة، ولها محرك يدار بواسطة ذراع حديدى معقوف يسمى “المنفلة”. بهذه العربة ذات الصندوق الكبير كانت زيارة سلامة لقريبته الست أم حمودة، حيث نكون فى انتظاره لنحظى بنزهة أو كما كنا نسميها “لفة” بهذه العربة العجبية. والحق أن سلامة كان بشوشاُ ودوداُ للغاية ويستجيب لرغبتنا بكل سرور. ولكن كل هذا لن يحدث إلا إذا وافق حمودة، وتلك كانت المشكلة فحمودة كان أكبر أولاد أسرته التى تنحدر من أصول ريفية داكن لون البشرة عريض المنكبين صحيح أنه من نفس الفئة العمرية التى ننتمى إليها ولكنه كان يمتاز بضخامة الجسم وقسمات وجهه الحادة، عديم الموهبة فى كل شئ حتى فى الألعاب التى كنا نمارسها حيث يثور لأتفه الأسباب وينسحب ساخطاُ ولاعناً، والحق أنه عرف مقدار نفسه فكان فى أغلب الأحيان يبدوا أليفاً ودوداً يعفو على مضض ولا ينسى من أساء إليه ولو بكلمة ويتحين الفرصة حتى يرد الكيل وأكثر.

وكان السلاح الوحيد الذى يملكه والذلة التى يستطيع أن ينال منا بها هى عربية سلامة. فهو يعلم مدى تعلقنا وحبنا وإنتظارنا لزيارة قريبه حتى يستطيع أن ينفث غله ويملى إرادته علينا أو على الأقل من له معه خصومة. والحق أنه مع تكرار هذا الموقف مع حمودة استطعنا أن نفهم هذه العقلية النرجسية وأنه مع أدبيات زيارة سلامة أن نحرص كلنا على أن تكون علاقتنا بحمودة علاقة طيبة وإلا فالويل و الثبور وعظائم الأمور لأى منا إذا كان له خلاف مع حمودة قبل زيارة سلامة، ولا نخفى سراً أننا فى بعض الأحيان كنا نتودد إليه بصورة كبيرة وكنا أحياناً نتنازل عن بعض حقوقنا من أجل عيونه ورضاؤه عنا وكان البعض يسمح له أن يسجل أهداف وهو أبعد ما يكون عن معرفة لعب الكرة إكراماً له وإتقاءاً لغضبه نظراُ لقرب قدوم سلامة بعربته. وأحياناً كانت تظهر عقدة النقص عنده عندما يتذكر فجأة موقف قديم مع أحدنا أو حتى لمجرد إثبات الذات والغلاسة ويمنعه من ركوب العربة وكانت تعد بالنسبة لنا من العقوبات القاسية.

وكنا دائماً ما ندعو بإختفاء حمودة أثناء الزيارة أو أن يرق قلبه ويسمح لمن كان عليه العقاب أن يكون معنا ويسمح له بالصعود للسيارة بإشارة من يده وهو واقف منتشياً مزهواً. وما أن ينطق “يالا اركبوا” حتى نندفع كلنا داخل صندوق عربية سلامة ونحن فى غاية السرور والإنشراح ويبدأ سلامة بإدارة موتور العربة بالمنفلة وما أن نسمع صوت الموتور حتى نصيح ونصفق. وتنطلق بنا العربة فى رحلة حول الحى السكنى المحيط بالعمارة وننظر من خلال فتحات المشمع الذى يغطى صندوق العربة إلى المارة فى الشارع تلفح وجوهنا نسمات رقيقية من الهواء الرطب وكأننا نسبح فى الهوء مرددين الأغنية التى طالما شدونا بها عند ركوبنا عربية سلامة:

“سالمة يا سلامة روحنا ورجعنا بألف سلامة بعربية سلامة”

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *