آراء وتحليلات

رمضان ودكة المقطم

دكتور / السيد مرسى

تعددت مظاهر احتفالات المصريين باستطلاع هلال شهر رمضان والتي تُعرف بـ “ليلة الرؤية”، واختلفت هذه الإحتفالات عبر العصور وذلك فقا لتطورها والوسائل المتاحة حيث يحرص المسلمون على تحرى رؤية هلال رمضان منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، ولم يأمر النبي بصيام رمضان إلا بعد رؤية الهلال محققا، أو بشهادة العدول من الناس، ويتم ذلك عن طريق العين المجردة أو عن طريق الأجهزة الفلكية الحديثة.
وتفرّدت كل حقبة ببعض الطقوس والتقاليد الخاصة، فقد جاء عن شيخ المؤرخين أبو عمر الكندي في كتابه “أخبار قضاة مصر” أن أول قاض خرج لرؤية الهلال، هو القاضي أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة، الذي ولى قضاء مصر سنة 155هـ، وسن لمن بعده من القضاة هذه السنة الحسنة، فكانوا يخرجون إلى جامع عبود بسفح جبل المقطم لرؤية الهلال فى شهري رجب وشعبان؛ لإثبات هلال رمضان. ، وكانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم (جنوب شرقي القاهرة) والتي عرفت باسم ” دكة القضاة ” يخرج اليها لنظر الأهلة ، وعاشت هذه الدكة أزهى عصورها في ظل العصر الفاطمى في تزينها وتجميلها لاسيما أن الخليفة الفاطمى كان يخرج بنفسه على رأس موكب إحتفالى في حال ثبوت رؤية الهلال ، مرتديا أفخم الثياب وحوله الوزراء وكبار رجال الدولة وجحافل الجنود أمامهم ليعلن بنفسه للمصريين أن اليوم التالى أول أيام شهر الصيام وتتم اضاءة مصابيح المساجد وكذلك المحلات التجارية وتغلق جميع الخمرات بالقاهرة ويحظر بيعها وكذلك قام القائد الفاطمى بدر الجمالي ببناء مسجدا له على سفح المقطم ، وأصبحت مئذنته مرصدا لرؤية هلال رمضان
وقد وصف لنا ابن بطوطة يوم الرؤية في كتابه “تحفة النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” ….يجتمع فقهاء المدينة ووجهائها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين من شعبان بدار القاضي، ويقف على البابا نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة، فإذا تكامل الفقهاء ووجوه الناس، ركب القاضي ومن معه أجمعون، وتتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان، وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فُرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه، يترقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب، وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره ثم ينصرفون، هكذا فعلهم كل سنة” ، وفي العصر المملوكي كان السلطان يجلس فور ثبوت رؤية الهلال وحلول شهر الصوم في أحد الميادين الكبرى بالقاهرة لاستعراض أحمال الدقيق والخبز والسكر والغنم والأبقار المخصصة لصدقات رمضان بعد أن يكون محتسب القاهرة قد عرضها في الشوارع الرئيسية ، يتقدمهم حملة المشاعل والشموع والفوانيس ومجامر البخور، وفي العصر العثماني كان القضاة يخرجون عند ثبوت الرؤية في موكب شعبي تشارك فيه طوائف الحرف، وقد لبس أعضاء كل طائفة ملابسهم المميزة وبأيديهم نماذج من منتجاتهم، بينما ينطلق جنود الإنكشارية إلى الشوارع والأزقة وهم يصيحون: “يا أمة خير الأنام … بكرة من شهر رمضان صيام.. صيام..”، وفي حالة عدم ثبوت الرؤية كان النداء يكون “غدا من شهر شعبان.. فطار.. فطار”. وفى عصر محمد علي وحتى بدايات القرن العشرين استمرت طوائف الشعب تشارك في احتفالات استطلاع هلال رمضان بعد انتقال إثبات الهلال إلى المحكمة الشرعية وفى عهد الخديوي عباس الأول عام 1270هـ كان ينطلق مدفعان للإفطار الأول في القلعة والثاني بالعباسية، وبعد فترة توقف ثم عاد ينطلق من قلعة صلاح الدين طوال شهر رمضان ومع بداية التسعينيات تم إيقافه خوفا على بنيان القلعة ثم عاد الى جبل المقطم بالقاهرة.
وأخيرا مع ظهور التليفزيون تم الاستغناء تدريجيا عن مدفع القاهرة والاكتفاء بمدفع واحد يتم سماع طلقاته عبر الراديو وشاشات التليفزيون التي أصبحت من التراث والتقاليد الرمضانية في مصر، وفى هذه الأيام يخرج العلماء برئاسة مفتي الجمهورية لرؤية آخر شهر شعبان، ومتى ثبت ذلك أضيئت المآذن بالمساجد، وتزينت الشوارع، وعم الخبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وتبادل الناس التهانى.
وإلى اللقاء: دكتور / السيد مرسى

مقالات ذات صلة