أخبار دولية

كلمه الأمين العام لجامعة الدول العربية لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية

 

هناء السيد

الدكتور جمال سند السويدي
مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
السيدات والسادة الحضور،
​يُسعدني أن أكون بينكم اليوم .. في مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية .. وهو واحد من بيوت الفكر المعدودة في العالم العربي التي نجحت في صناعة اسم معتبر في مجال الدراسات الاستراتيجية .. وهو مجال تشتد الحاجة إليه في عالمنا العربي في هذه اللحظة بالذات من تطور النظام العالمي وتسارع المتغيرات على الصعيد الإقليمي .. حيث تتباين القراءات لما هو قادم .. وتتناقض التقديرات لما يمكن فعله حيال هذا القادم المجهول.
​وظني أن القراءة السليمة للتيارات المستقبلية تقطع بنا نصف المسافة المطلوبة على الأقل نحو هدف تعزيز مصالحنا كعرب، وتعظيم استفادتنا من هذه المتغيرات، بجلب خيرها أو درء خطرها .. ذلك أن القراءة السليمة لما يجري .. تضعنا على مسار سليم في الفكر والفعل على حدٍ سواء.. وما أقدمه اليوم لا يعدو أن يكون قراءة ذاتية للتطورات العالمية والإقليمية تستند إلى عمرٍ قضيتُه في متابعة الشئون الدولية، تأملاً وممارسة وانخراطاً في أروقتها .. والدرس الأهم الذي خرجتُ به هو أن التنبؤ بالتوجهات والاتجاهات العالمية هو أمرٌ تكتنفه صعوبة شديدة.. من كان يتوقع أن تنتهي صراعات النصف الأول من القرن العشرين بخسارة وانزواء كافة القوى الأوروبية الأساسية .. وبزوغ نجم عملاقين قادمين من الخلف؟ من كان يتوقع هذا الانفجار التكنولوجي في عالمنا وتأثيراته المختلفة على المجتمع والاقتصاد والسياسة؟ من كان يتصور منذ أربعين عاماً .. أن تتحول الصين الفقيرة إلى القطب الثاني –أو الأول في بعض الحسابات الاقتصادية- في الاقتصاد الدولي؟ بل من كان يتصور في التسعينات أن تنهض روسيا من كبوتها العميقة على النحو الذي نشهده اليوم؟
ظني أنه ليس في وسعنا، سوى أن نرصد ونناقش ونطرح أفكاراً وسيناريوهات للمستقبل.. دون أن نقطع باتجاه بعينه أو نكون على يقين من أن الأمور سوف تجري في مسار محدد.
والحقيقة أن السمة الأهم في عالم اليوم هي ذلك “اللايقين” وتلك السيولة التي تطبع التفاعلات والتغيرات .. في عالم الحرب الباردة كانت هناك ثوابت يُمكن الاستناد إليها لتوقع سلوك اللاعبين بدرجة معقولة من اليقين.. وحتى في العقود الثلاثة التالية على الحرب البادرة كانت الأحادية القطبية التي تقودها الولايات المتحدة تُعطينا بوصلة معقولة .. أما اليوم فقد تعدد اللاعبون وتنوعت القضايا وتسارعت المتغيرات وتدافعت الأفكار الجديدة إلى حد يصيب أي صانع قرار بالحيرة الشديدة لأن مساحة المجهول بشأن المستقبل أكبر كثيراً من مساحة المعلوم.. وهو أمرٌ نرصد تبعاته بوضوح حتى لدى القوى الكبرى.
وهناك في رأيي عاملان جوهريان وراء هذه الحالة من السيولة واللايقين على المستوى العالمي..
العامل الأول يتعلق بتركيبة النظام الدولي .. ولا يخفى أن النظام العالمي يمر بمرحلة خطيرة من إعادة التشكيل، أو ربما نقول أنه يقف في مفترق طرق … لا نعرف إن كان العالم سوف يذهب إلى نظام متعدد الأقطاب .. أم يدخل في مرحلة جديدة من الحرب الباردة والتنافس بين قطبين (الولايات المتحدة والصين).. أم يتحرك نحو مرحلة من الفوضى الشاملة؟ كل من هذه الاحتمالات وارد، وهناك من الخبراء والسياسيين من يُرجح كل واحدٍ منها… ما نعرفه ونرصده بقدر معقول من اليقين هو أن لحظة الأحادية الأمريكية التي عاشها العالم منذ الحرب الباردة قد شارفت على نهايتها.. ومرجع ذلك في تقديري هو تغيرات عميقة داخل الولايات المتحدة نفسها تدفعها تدريجياً إلى التخلي عن قيادة النظام العالمي .. أهم هذه التغيرات يتعلق بأن المجتمع الأمريكي صار – في أغلبه- مقتنعاً بأن العائد من وراء القيادة الأمريكية لا يُبرر التكلفة الكبيرة التي تحملتها الولايات المتحدة .. وقد بدأت هذه النزعة الانسحابية من القيادة العالمية في عهد أوباما .. ولكن ربما عبر عنها “ترامب” بصورة أكبر بسبب أسلوبه المباشر الذي يُلامس الفجاجة أحياناً.
​يخبرنا التاريخ أن لحظات التغير في قمة النظام العالمي هي الأخطر والأكثر عرضة للانزلاق نحو الصراع.. السبب أن هناك دوماً قوى صاعدة تريد مواصلة صعودها.. وقوى مستقرة على القمة تريد أن تمنع أو على الأقل تبطئ من عملية إزاحتها عن القمة .. وهذه الديناميكية تُشكل بيئة مثالية لاندلاع الصراعات.. ونرى اليوم بوادر هذا الاتجاه في العلاقات الصينية- الأمريكية.. ونراه أيضاً في الدور الجديد الذي ترسمه روسيا لنفسها.​
​ولا شك أن هذه المتغيرات غير المحسومة في قمة النظام الدولي تضع منطقتنا العربية في موقف صعب .. إذ تجد نفسها محل تنافس دولي سوف تتصاعد حدته في المستقبل .. وهو ما نلمس مظاهره اليوم بوضوح .. ويتعين علينا أن نقرأ دلالات هذه المتغيرات بدقة شديدة لأنها تتعلق بمستقبلنا .. وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة يُغري قوى إقليمية معينة بتجاوز الخطوط الحمر على نحو غير مسبوق .. وبقدر من الاجتراء الذي يلامس حد البلطجة.. رأينا هذا في السلوك الإيراني والاعتداءات التي مارستها في الخليج العربي، بالأخص في الصيف الماضي.. ونراه اليوم من جانب تركيا، في سوريا ثم مؤخراً في ليبيا.
​إن الإقليم العربي ربما يكون الأكثر تعرضاً للتهديد بسبب التغيرات المتسارعة في قمة النظام الدولي .. وهو ما يحتم علينا التفكير -بعقل مفتوح- في خيارات مختلفة لتعزيز أمننا في المرحلة القادمة.. وأقول باختصار: إن التفكير التقليدي لا يصلح مع أوضاع غير تقليدية.. وإن الاستراتيجيات التي اعتمدنا عليها خلال العقود الأربعة الماضية لابد أن تتغير، لأن الأوضاع ذاتها تتغير على نحو جوهري ومتسارع.. ولا بديل من وجهة نظري عن تعزيز قدراتنا الذاتية على مواجهة التهديدات في عالمٍ من المحتمل أن يصير أكثر فوضوية، من دون قواعد حاكمة مطبقة أو أعراف ناظمة يؤخذ بها .. من المهم، بل والضروري، أن يكون لنا حلفاء .. فأي استراتيجية أمنية ناجحة تقوم على توسيع رقعة الحلفاء .. على أن التحالفات مع الخارج لابد وأن تتأسس على قاعدة صلدة من الأمن القومي العربي المشترك، وسأعود لهذه النقطة في ختام حديثي.
وإذا كان العامل الأول وراء حالة اللايقين والسيولة على المستوى الدولي يتمثل في عدم الاستقرار على شكل النظام الدولي في المستقبل القريب.. فإن العامل الثاني يتعلق بما يُمكن تسميتها بـ “محركات الاضطراب الكبرى” .. وهي مجموعة من الظواهر التي تتصاعد وتتفاعل داخل المجتمعات على صعيد الكوكب كله مثيرة قدراً هائلاً من الاضطراب، بل والذعر أحياناً.. وأخطر هذه الظواهر ما يتعلق بالتطور التكنولوجي والتغير المناخي والهجرة.. وكل منها ستكون لها انعكاسات عميقة على مجتمعاتنا العربية أيضاً.
التغير التكنولوجي، خاصة على صعيد الذكاء الاصطناعي والـ Robotics ، والـ Automation يُثير الاضطراب على أكثر من مستوى.. لا أحد يعرف على وجه اليقين حجم الوظائف التي ستُفقد، خاصة في المجتمعات الغربية لصالح الروبوت.. أما الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على العمالة الرخيصة، فإنها قد تفقد هذه الميزة لصالح الماكينات الأرخص .. ونرصد اليوم قلقاً متنامياً لدى الطبقة الوسطى الشاسعة على ضفتي الأطلنطي من أثر التكنولوجيا، وقد يُترجم هذا القلق في صورة تصاعد أكبر للموجات الشعبوية.. خاصة وأنه يقترن بحالة من عدم الرضا لدى طبقة وسطى بالغة الاتساع على مستوى العالم (يقترب عددها من 4 مليارات) .. وربما كانت هذه الحالة من عدم الرضا والشعور بتصاعد اللامساواة هي السبب وراء تصاعد الاحتجاجات مؤخراً في بلدان حققت إنجازات اقتصادية مهمة مثل تشيلي.
هناك باعث آخر للقلق، ربما بصورة أشد، يتعلق بتأثير تكنولوجيا الاتصال على التماسك الاجتماعي والاستقرار داخل الدول .. فهذه التكنولوجيا قادرة على استهداف الجماهير وتشكيل الوعي العام عبر استخدام البيج داتا والخوارزميات في تصميم دعاية موجهة لمُستقبل محدد .. وليس خافياً ما أثارته وسائل التواصل الاجتماعي من حالة من الاستقطاب العميق داخل البلدان، المتقدمة والنامية على حد سواء.. بل إن الأثر السلبي يكون أشد في حالة البلدان التي تُعاني انقسامات حادة، طائفية أو سياسية أو حتى على مستوى الأجيال.. ومنها بعض بلداننا العربية.
أما فيما يتعلق بالمناخ .. فيبدو أن العالم يتحرك بسرعة نحو نقطة اللاعودة، والتي قد لا تُفلح عندها أي إجراءات في تفادي الإبقاء على الاحترار العالمي تحت مستوى درجتين مئويتين .. ويقول الخبراء إن هذه النقطة قد تأتي في عام 2035.. وهنا؛ فإن ما يهمنا أن الدول النامية والفقيرة ستكون الأكثر تأثراً بالتغير المناخي، في صورة جفاف أو غمر للمناطق الساحلية، أو تراجع في الانتاج الزراعي.. والمنطقة العربية، كما نعلم، هي أكبر منطقة عجز غذائي في العالم .. وهي تحصل على أغلب احتياجاتها الغذائية والمائية من خارجها.. وهو وضع يعرضها لمخاطر وتهديدات في المستقبل، قد تكون لها انعكاساتها الاجتماعية والسياسية، وليس فقط الاقتصادية أو البيئية.
وأخيراً، فالهجرة قد تكون القضية الأهم في عالم اليوم.. وبرغم أن نسبة المهاجرين من سكان العالم ثابتة تقريباً منذ عشرين عاماً عند 3% .. إلا أن قضية الهجرة صارت تثير استقطاباً أكبر داخل المجتمعات، الغربية على وجه الخصوص، بسبب استغلال بعض الأحزاب لها سياسياً، وأيضاً لارتباطها بمتاعب الطبقة الوسطى .. وكذلك بسبب التركيز المتزايد على “الهوية الثقافية”.. علماً بأن المجتمعات الغربية، وكذلك الصين واليابان، ستحتاج في المستقبل القريب إلى استقدام مهاجرين لوظائف عالية المهارة .. بسبب ما تفرضه اعتبارات شيخوخة السكان من ضغوط على قوة العمل في هذه الدول.
وربما يحمل هذا التوجه تهديداً جديداً لمجتمعاتنا العربية المُستنزفة بالفعل من هجرة العقول والكفاءات التي قد تتصاعد للأسف في المستقبل بحثاً عن أوضاع اقتصادية أفضل .. وتشير الإحصائيات الحالية إلى أن نحو 100 ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء يهاجرون كل عام من ثمانية أقطار عربية.. وهناك نحو 20 مليون مهاجر من منطقة الشرق الأوسط يعيشون خارجها، من بينهم نسبة كبيرة من الكفاءات الممتازة.. والخطر كل الخطر أن تواجه المنطقة العربية نزيفاً أكبر للكفاءات في ظل ما ستقوم به الدول المتقدمة من “اصطياد العقول”.. فبرغم أن الدول الغربية لا تُريد المزيد من اللاجئين .. إلا أنها تسعى بقوة وراء مهاجرين من ذوي الكفاءات العالية.
والحقيقة أننا عندما نتأمل هذه الظواهر المحركة للاضطراب -التكنولوجيا والتغير المناخي والهجرة- فإننا نجد أنفسنا أمام مشهد لنهر غاضب ومضطرب.. أو لسيل عارم متدفق.. قد يتحرك في أي اتجاه.. قد ينجح الناس في تحويل مساره إلى قنوات ومجارٍ تعود بالخير والنماء .. وقد يتحول السيل إلى قوة تدمير وخراب للعمران.
​والسؤال الكبير أمامنا في المنطقة العربية هو: ماذا نفعل أمام هذه المتغيرات الكاسحة والاضطرابات التي لا نعرف لها مآلاً أو وجهة؟
​هناك الكثير الذي يُمكن قوله بطبيعة الحال.. ولكن أكتفي هنا بأن أقول إن استعادة الأمن الجماعي العربي تُعد مفتاحاً أساسياً للتعامل مع حالة اللايقين هذه.. ويحتاج أي نظام للأمن الجماعي لاتفاق بين أعضائه على عدد من الأولويات .. ونحن اليوم، كما نرى جميعاً، أمام أولويات مختلفة ومتباينة من أقصى الغرب على ضفاف الأطلنطي إلى أقصى الشرق على ساحل الخليج .. ولا يُمكن أن تجتمع عناصر القوة العربية، وهي كثيرة وأكثر مما نتصور ونعتقد .. أقول لا يمكن أن تجتمع عناصر القوة هذه من دون أن تضع الدول العربية أولوياتها الأمنية على الطاولة، بصراحة تامة وشفافية كاملة .. وبحيث تقتنع كل دولة بأن الأمن الجماعي العربي لا يتحقق سوى بتلبية هذه الأولويات جميعاً، من دون تمييز بينها .. لأن أمننا القومي العربي هو حاصل أمن كل دولة على حدة.
وأقول في عبارة واضحة: إيران وتركيا وإسرائيل .. كل منها تُشكل خطراً داهماً على الأمن القومي العربي.. بصور مختلفة ودرجات متفاوتة.. وإن كان بين كل منها تقاطعات.. فبقاء القضية الفلسطينية من دون حل يُضعف من قدرتنا على التصدي لإيران التي طالما استغلت هذه القضية بقدر لا مثيل له من الانتهازية السياسية.. والتهديدان الإيراني والتركي يتقاطعان على الأرض السورية.. والتهديد التركي صارخ في ليبيا.. بل وأضيف إلى هذه الفئة كذلك التهديد الاثيوبي لمصادر المياه في الدولة العربية الأكثر سكاناً.. وهو أيضاً تهديد للأمن القومي العربي في مجموعه.
​وفي النهاية أقول إنني تحدثت عن تهديدات محددة … ويُمكن أن أُضيف إليها الكثير .. من التسلح النووي إلى الإرهاب إلى خطر الحرب السيبرانية .. وليس انتهاء بالأوبئة.. وكلها تهديدات ليس فقط للدول، وإنما لاستقرار النظم الاجتماعية والسياسية.. وجميعها ليست ببعيدة –للأسف- عن مجتمعاتنا ودولنا .. وإن كان لي أن أهمس في أذن صانع القرار العربي بنصيحة متواضعة .. فسأقول بإيجاز: Think the unthinkable.. علينا أن نُفكر بصورة غير تقليدية أمام تهديدات ومتغيرات ليس لها سابقة .. علينا أن نتعامل مع ما يجري بقدرٍ من الخيال في التصور.. والجرأة في الفعل… وهذا البلد، الإمارات، ضرب مثلاً يستحق الذكر والإشادة في التعامل مع المتغيرات وقراءة المستقبل.. والتحرك بجرأة وحكمة في نفس الوقت.. وأسجل هنا أنني أراقب ما تفعله الإمارات في مجتمعها.. وفي سياستها الخارجية .. بقدر كبير من الإعجاب والاحترام.. فهي دائماً سابقةٌ ومبادرة، رشيقة الحركة وسريعة الاستجابة والتكيف مع المتغيرات .. وهي سماتُ النجاح في عالمٍ لا ثابت فيه سوى التغير المستمر.
ش

.

5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *