أخبار مصر

محمود محيى الدين يكتب: ما بعد اللقاح!

حيَّت البورصات إنجازات العلم بطريقتها فارتفعت مؤشراتها لأرقام قياسية فى شهر نوفمبر (تشرين الثانى) الماضى متجاوبة مع إعلان شركتى دواء أمريكيتين تطوير لقاحين مضادين لفيروس كورونا بفاعلية عالية، وقرب إتاحتهما فى الأسواق بعد مراجعة السلطات الصحية المعنية فى اجتماعين لإيجاز استخدامهما، تم تحديدهما فى العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) الحالى للقاح شركتى «فايزر» و«بيونتك»، وفى السابع عشر من الشهر نفسه للقاح شركة «موديرنا». وهناك لقاحات أخرى بتكنولوجيات طبية مختلفة وبفاعليات يجرى التبشير بها وتعلن عنها معامل بريطانية وأوروبية وصينية وروسية.
حقَّق العلم إنجازا غير مسبوق فى تطوير اللقاح بسرعة فائقة وجهود شاقة لإنقاذ حياة البشر وتخفيف معاناتهم، بما سيخلد أسماء لعلماء وباحثين فى تخصصاتهم، ومع تزايد الإعلان عن قرب تداول اللقاحات انتقلت حالة الترقب من تعلقها بالدوائر العلمية وبما يصدر عن المعامل وعلمائها، إلى الحكومات ودوائرها الصحية للإجابة عن أسئلة عملية: متى سيُتاح اللقاح لعموم الناس؟ ما هى التكلفة؟ ما هو مدى استعداد البنية الأساسية والإنتاجية لتصنيع وتعبئة وتخزين ونقل وتوزيع اللقاح واستخدامه بأمان؟
وفى حين يتلهف البعض ليكونوا فى مقدمة الحاصلين على اللقاح، استمعت منذ يومين إلى تقرير تكررت إذاعته عن مسح جرى على البالغين فى الولايات المتحدة فى شهر أغسطس (آب)، ذكر 42 فى المائة منهم فقط أنهم سيستخدمون اللقاح عند توافره، وذكر تقرير آخر انخفاض نسبة المقبلين على التلقيح بين شهرى مايو (أيار) وسبتمبر (أيلول) من هذا العام. كما تظاهرت احتجاجا ضد اللقاح جموع فى مدن أوروبية فى وقت يؤكد فيه خبراء الأوبئة ضرورة وصول بلوغ نسبة المناعة ثلثى المجتمع على الأقل لمنع الوباء من الانتشار، بما يتطلب التوسع فى استخدام اللقاح والبديل هو التعرض للإصابة بالفيروس كبديل بما فى ذلك من مخاطر على حياة ذوى العلل. بما يتطلب الأمر حوارا ونقاشا وتثقيفا وتحفيزا حرصا على الصالح العام جنبا إلى جنب مع تيسير إتاحة اللقاح لعموم الناس. وفى هذا تختلف السبل:
ــ تعيين وزير اللقاح: من أساليب تفعيل نشر اللقاح فى أسرع وقت ممكن ما لجأت إليه المملكة المتحدة من تعيين وزير مشرف على طرح اللقاح وتأمين وصول 100 مليون عبوة منه للمواطنين؛ تم طلبها بالفعل لتكفى سكان الجزر البريطانية. وسيكون الوزير فى حكومة المحافظين نديم زهاوى، الذى شغل حتى تكليفه المهمة الجديدة حقيبة الأعمال والصناعة، مسئولا عن مهمة مزدوجة للإشراف على وزارات الصناعة والصحة والرعاية الاجتماعية، مع جدول زمنى مكثف لتوفير اللقاح للجميع فى خلال 9 أيام من خلال منظومة التأمين الصحى. وقد لقى التكليف ترحيبا من حكومة الظل وإن شدد ممثلوها على القيام بحملة توعية مكثفة تتزامن مع العملية اللوجيستية المعقدة التى سيشرف عليها وزير اللقاح.
ــ شهادة اللقاح: ومن سبل الحث على نشر اللقاح ما دعا إليه الكاتب الصحافى الإنجليزى جون جايبر، بضرورة حمل كل فرد لتطبيق رقمى على هاتفه يفيد تلقيح حامله من عدمه عند السفر. فبعد تذكيرنا بما كان من أمر المسافرين فى القرن الماضى بحملهم شهادات ورقية تفيد بتطعيمهم ضد أمراض معدية ومتوطنة، يشير الكاتب إلى مطالب لشركات الطيران لركابها بإظهار ما يفيد بتطعيمهم من خلال تطبيقات رقمية تحمل البيانات المطلوبة معتمدة من جهة صحية، فى شكل كود رقمى يتم التعرف عليه من خلال أجهزة كشف سريعة بالمطارات. وسيكون هذا الإجراء أيضا ملزما لمرتادى المبانى الحكومية والإدارية والمواصلات والخدمات العامة. ولعلك ترى ما يشبه هذا الإجراء معمولا به فى المطارات وأماكن أخرى فى إطار احترازى بقياس درجة الحرارة ولبس الكمامة الواقية وتقديم شهادة تثبت الخلو من الفيروس.
ــ قوارير اللقاح: لتوفير مئات الملايين من اللقاحات تبرز مشكلة توفير ما يعرف بالأمبولات، أو القوارير الزجاجية الصغيرة المغلقة التى تستخدم لحفظ اللقاحات. ورغم التعارف على تكنولوجيا إنتاجها وتوافر مواد صنعها وتعقيمها، يحتاج اللقاح الجديد إلى مئات الملايين منها فى وقت وجيز. كما تتطلب أنواع منه قوارير شديدة التحمل لضغط النقل والتبريد لدرجات تبلغ أكثر من 70 درجة مئوية تحت الصفر. وتتوفر خطوط إنتاج كبيرة فى عدد محدود من بلدان العالم لهذه النوعيات بما جعل الطلب عليها يرتفع مقابل أسعار متزايدة. جعل هذا محرر مجلة «نيويوركر» لهذا الأسبوع يصدر مقالة عن سباق مصانع القوارير بقصة الإمبراطور الرومانى تيبريوس مع صانع القوارير الذى أتى إلى قصره يعرض اختراعا لقارورة من زجاج معالج ضد الكسر فيسقطها أمام الإمبراطور على الأرض مستعرضا قوة تحملها فلم تتهشم. فما كان من الإمبراطور ــ وفقا للرواية ــ إلا الأمر بإعدامه خشية من اختراعه على ما تحويه خزائنه من الذهب التى ستتدهور قيمته مقابل فائدة هذا الاختراع المدهش. وبعد مئات السنين تظهر مجددا قيمة الزجاج المعالج بتكنولوجيا العصر ليحمل فى قواريره ما لا يغنى عنه الذهب فى حماية حياة الإنسان.
ــ لقاحات لأوبئة أخرى: عندما أعد عالم الرياضيات آدم كوتشارسكى كتابه عن الأوبئة والأمراض المعدية لم يكن على علم أن توقيت صدوره سيسبق جائحة كورونا بأسابيع. وقد استعرض فى كتابه المعنون «قواعد العدوى» أشكالا مختلفة من العدوى، منها ما يأتى فى شكل وباء صحى كما نشهد اليوم مع فيروس كورونا، ومنها ما هو اقتصادى مثلما رأينا من انتقال العدوى فى الأزمات المالية والمصرفية، ومنها ما هو إجرامى مثل العنف المسلح، ومنها ما قد يأتى فى شكل أفكار سيئة كالعنصرية البغيضة.
ورغم عنوان الكتاب فلا توجد فعلا قواعد بالمعنى المتعارف عليه للعدوى، ولكنها أنماط تبدأ بظهور العدوى ثم انتشارها ثم استقرارها وثباتها ثم انخفاضها، مع تباين فى سرعة الانتشار والانخفاض بين عدوى وأخرى. وتأتى فائدة النماذج الرياضية المستخدمة قواعد البيانات الكبرى فى تحليل وفهم ظواهر العدوى وأنماطها، ولكن علاج العدوى يأتى بالسيطرة عليها من داخلها ومن ضبط البيئة المحيطة بها تماما، كما تطور لقاحات ضد الأوبئة الفيروسية بالتعرف على مكوناتها الحيوية الدقيقة وتفعيل المناعة المضادة لها من داخل الجسم ومنع انتشارها بالتباعد الاجتماعى.
وقد يحتار المرء أى أنواع العدوى والأوبئة أشد ضررا وفتكا بالمجتمعات واستقرارها؟ وتأتى الإجابة سريعا: تلك التى لا لقاح لها!
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *