أخبار مصر

د. مصطفى الفقي يكتب: المصالحات العربية ــ العربية

إننا أمام عالم يبدو كل ما فيه جديدا ولو تأملنا السنوات الماضية لشعرنا بحال من الاغتراب عن روح العصر

حفل التاريخ العربى الحديث بعشرات النماذج والأمثلة للمصالحات العربية ــ العربية بين دولتين أو أكثر، وتكون تلك المناسبات مفعمة بالمشاعر العربية والشعارات القومية، ويبدو الأمر لمن يشاهده وكأن تاريخا مختلفا يولد من جديد، وأن المصالحة الجديدة ستكون أبدية، ولكن لا يلبث الأشقاء أن يعودوا إلى عواصمهم (حتى تعود ريما إلى عادتها القديمة)، ونجد أن الطبع قد غلب التطبع، ولم تكن القبلات والتحيات إلا نفاقا ذاتيا لم يلبث إلا وانصهر تحت شمس الحقيقة، وهذه الظاهرة الخطيرة هى التى فرضت علينا الشعار الذى ردده الراحل الدكتور أحمد عصمت عبدالمجيد، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عندما صك عبارة (المصارحة قبل المصالحة)، وأنا أقول ذلك الآن ويدى على قلبى متطلعا إلى السماء لتثبيت المصالحات العربية وفتح ملفات جديدة من الأخوة الصادقة والعلاقات الوثيقة التى تؤدى إلى نقلة نوعية فى الفكر العربى المعاصر، وتجعل صورة العرب صادقة ومتألقة فى أعين الجميع، وهذا الأمر يدعونا إلى تأمل الملاحظات الآتية:
أولا: إن الشعر العربى هو ديوان اللغة ومستودع المشاعر، وما أكثر ما تغنى العرب قديما بأمجادهم، ورددوا الأشعار والأذكار فى تمجيد تاريخهم، وكانت النتيجة دائما أن الحديث رائع والكلام معسول والأشعار تشحذ العواطف، وتلهب المشاعر وتجعلنا أسرى الماضى الذى يحتجزنا فى لحظات تاريخية لا نبرحها ولا نبتعد منها، فيغيب عنا الواقع بأطروحاته الجديدة وأفكاره المتجددة، وروحه التى تتمتع بهوية العصر وإيقاع الحداثة.
ثانيا: تتميز العلاقات العربية ــ العربية بفيضان من المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة، ولكنها تخلو غالبا من الرؤى العقلانية والقدرة على استشراف المستقبل، فنحن أمة ماضوية نلتصق بالماضى ولا ندرك أبعاد الحاضر ولا نتهيأ لروح المستقبل، من هنا جرى وصفنا أحيانا أننا كعرب لسنا إلا مجرد ظاهرة صوتية، وأننا أمة الحناجر العالية ولسنا أمة العقول اليقظة، كما أننا أمة عاطفية يمكن أن تجمع بين الحب والكراهية تجاه أمر معين فى ظل نقلات سريعة وتطورات مفاجئة، وهو أمر تعانى منه العقلية العربية وينعكس على البيئة السياسية والمناخ الثقافى على نحو يجعل التنبؤ بالمستقبل أمرا صعبا.
ثالثًا: إن الأجندات العربية المختلفة التى يمضى عليها كل قطر عربى إلى جانب مداخلات أجنبية وضغوط خارجية، تجعل الإرادة الوطنية مكبلة وغير قادرة على ممارسة إرادة حرة أو اتخاذ مواقف مستقلة، وندرك جميعا أن التضارب بين الأجندات يؤدى فى النهاية إلى خصومات مكتومة وقطيعة بين العواصم العربية من وقت إلى آخر، مع أننا نقول دوما إن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، كما أن توزيع الأدوار عربيا أمر تحتمه الظروف، ولنا فى سياسات خصومنا عبرة، فكل القوى الطامعة فى الوطن العربى تجيد ببراعة توزيع الأدوار على نحو غير مسبوق.
رابعا: إن علاقات الأقطار العربية بدول الجوار هى مسألة حاكمة تستدعى النظر وتستوجب الاهتمام، فالعلاقات العربية ــ الإيرانية والعلاقات العربية ــ التركية، وقبل ذلك كله العلاقات العربية ــ الإسرائيلية، هى مفاتيح لأدوار يجب التنبه إليها والبناء عليها، خصوصا أن الذين قالوا لا توجد فى السياسة مبادئ ثابتة ولا أفكار دائمة هم الذين تداركوا وقالوا ولكن توجد مصالح مستمرة، فالأفق الواسع فى العمل السياسى يعرف كيف يمكن توظيف آليات المواقف لمصلحة الأطراف التى تدرك قواعد اللعبة وتفهم فلسفة التاريخ وتعى الأدوار الناجحة فى هذا السياق، ولا بد من أن نتيقن أن علاقاتنا بدول الجوار غير العربى يجب أن تتميز بقدر من الثبات والاستمرارية، وأن تقوم على أسس تستوعب القواسم المشتركة، وتعتمد على مفهوم حسن الجوار بين الدول المختلفة. إن العرب لن يبرحوا أرضهم، والإيرانيين لن يتركوا المنطقة، والأتراك لن يخرجوا من خريطتها، وإسرائيل وجود جرى زرعه لحسابات دولية كانت ولا تزال وسوف تظل قائمة، لذلك يجب عدم الإفراط فى التفاؤل ولا الاستغراق فى التشاؤم، والمطلوب فى النهاية هو تحقيق التعايش المشترك ونبذ أسباب الخلاف والاعتراف بالحقائق وممارسة الحوار البناء وفتح الأبواب أمام كل ما من شأنه أن يؤدى إلى تعزيز الوضع العربى وتأكيد عوامل الاستقرار والتمكين لأسباب النهضة العربية والصحوة القومية التى طال انتظارنا لها.
خامسا: إن ميزان القوى فى الشرق الأوسط يعتمد إلى حد كبير على القوى الإقليمية البارزة، واضعين فى الاعتبار أن 22 دولة عربية يجب أن تكون ركيزة حضارية وثقافية بالمفهوم العصرى، فالقضية لم تعد هى قضية الجيوش، ولكنها تكمن فى القدرة على الاعتراف بسياسات واضحة تستوعب الحقائق بلا استثناء، وتمضى على طريق مقبول من عموم العرب.
سادسا: لقد أخذ الصراع العربى الإسرائيلى منحى جديدا خلال السنوات الماضية، بل وفى الشهور الماضية تحديدا، وأصبح علينا أن نقر بالفرص الضائعة واحتمالاتها فى السنوات المقبلة، فالخصوم يفكرون ونحن أحيانا غافلون. من هنا جرت سرقة المستقبل العربى لمصلحة قوى أجنبية وخصوم أشداء يقرأون المستقبل بذكاء، ويتعاملون مع المعرفة والمعلومات التفصيلية فيها على نحو يؤدى غالبا إلى الحسابات الدقيقة والنجاحات المتطورة، وقدرة غيرنا على ضبط النفس هى قدرة مشهودة، ولو أخذنا الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لأدركنا نمط التفكير الذى يمضى عليه خصومنا بتفجير الصراع بين فترة وأخرى، لتأكيد سطوتهم وتعزيز قدراتهم أمام حلفائهم فى الغرب وأصدقائهم فى الولايات المتحدة الأميركية تحديدا، وإرسال إشارات إلى العرب تذكرهم بقدرات إسرائيل التى تستعرضها من حين إلى آخر، على الرغم من أن الأجواء فى المنطقة تبدو مواتية أمام الدولة العبرية كما لم يحدث من قبل.
سابعا: إن الساحة الدولية بكل صراعاتها وتناقضاتها تلزمنا أن نكون مدركين لأن العالم يتغيّر بسرعة والأحداث تتطور، بفعل تكنولوجيا العصر، كما لم نعهدها من قبل. إننا أمام عالم يبدو كل ما فيه جديدا، ولو تأملنا السنوات الماضية لشعرنا بحال من الاغتراب عن روح العصر، لذلك فإن البحث العلمى والاهتمام بالتعليم هما من الأمور الجوهرية التى تمثل الممر الوحيد نحو المستقبل الأفضل، وإذا كنا قد تطرفنا فى الصراعات الإقليمية والنزاعات العربية ــ العربية، وعشنا فى ظل المخاوف المتبادلة والمنافسات القطرية التى تتحول إلى أزمة ثقة طويلة المدى، فإنه يتعين علينا أن نراجع سياساتنا، وأن نعيد النظر فى العلاقات البينية بين الأقطار العربية، فى صراحة تسمح لنا إدراك الحقائق وتزيل عنا آثار عمى الألوان، وأن ندرك أن المنطقة تمر بفترة شديدة الحساسية بالغة التعقيد، والقوى العظمى والكبرى تراجع سياساتها فى ظل انكماش أهمية بعض الأقاليم وتزايد أهمية البعض الآخر، ولا يخالجنى شك فى أن أجهزة الدراسات الاستراتيجية والاستخبارات الكبرى ترسم خرائط جديدة للمناطق المختلفة، وتلهب الصراع الدولى بأحداث إقليمية تبدو أحيانا مفاجئة، ولكنها فى الحقيقة كانت قيد الإعداد قبل ذلك بسنوات طويلة.
من الملاحظات التى ذكرناها سابقا، نستشعر أهمية صلابة العلاقات العربية ــ العربية وتميزها عن غيرها، لأن اللغة المشتركة التى هى عصب القومية تشكل لنا إطارا لا يمكن أن نخرج عليه، وقدرتنا على التمييز بين الثوابت والمتغيرات تجعلنا قادرين على استشراف المستقبل وقراءة ما هو آت حتى تصبح أقوالنا مطابقة لأفكارنا، وأن يصارح كل طرف منا الطرف العربى الآخر بهواجسه ومخاوفه بل وحساسياته أيضا، فالأمة الواحدة تلزم شعوبها بأن تكون ضميرا يقظًا للمستقبل، لذلك فإننا نقول هنا إن المصالحات العربية ــ العربية يجب أن ترقى إلى مستوى التحديات، وتكون صامدة أمام المتغيرات الطارئة أو التطورات العابرة، كى تبقى الأمة العربية نسيجا متماسكا فى كل الظروف وأمام التحديات كلها.

نقلا عن إندبندنت عربية

مصطفى الفقى كاتب وباحث

نقلا عن إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *