آراء وتحليلات

جلابيــــــــــــة شحـــــــــــــتة

من ذكريات الطفولة والصبا

بقلم د.عماد عبد الرؤوف الرطيل

عندما بدأت الشمس تميل إلى الغروب وأخذ الليل يتسلل بهدوء ليحل محل أضواء النهار، عندها بدأت قوتنا تخور وأنفاسنا تتقطع بعد عدة ساعات من اللعب المتواصل على سطح العقار الذى نسكن فيه، فقد كان سطح العمارة وهكذا كان يطلق على البيت الكبير الذى يضمنا بالرغم أنه كان يتكون من طابقين أثنين فقط، ولكن ضخامة المبنى الذى كان يضم أثنى عشرة شقة سكنية بواقع ست شقق فى كل طابق وكونه أعلى عقار فى المنطقة هو ما جعل سكان الحى يطلقون عليه لقب “العمارة”.

بعد أن أنتهينا من اللعب أنزويت أنا وبعض أقرانى فى ركن من السطح لنأخذ قسطاً من الراحة ونبدأ فاصل من الأحاديث الطفولية البريئة والقفشات الحلوة البسيطة التى تجعلنا نضحك فى هيستريا مفتعلة وكثيراً ما كان الفريق المهزوم ما يتلقى جانب كبير من تلك القفشات والسخرية اللاذعة والتى كانت كثيراً ما تقابل بصدر رحب وبدون ضيق ولكن ما يمر به الفريق المهزوم اليوم تكون له الغلبة فى يوم آخر، ونحن على هذه الحالة قطع رفيق من الرفقاء تلك الجلسة بسؤال وجهة فى صيغة استفهام قائلاً “يا ترى يا أولاد شكل جلابية شحتة العيد ده هتبقى ايه” وساد الجلسة صمت مطبق وكأنه أيقظ فينا السؤال الذى كان دائماً يسبق المناسبات الدينية الكبرى الفطر والأضحى ومولد النبى ويشغل بالنا طيلة شهر كامل قبل أى من هذه المناسبات هذا السؤال الذى يعد أحد المظاهر الهامة والمحببة إلى نفوسنا نحن أطفال العمارة والذى كنا نسعد به ويحتل جانباً كبيراً من اهتماماتنا وتحضيراتنا لهذه المناسبات.

ضمت العمارة أحد عشراً أسرة مسلمة وأسرة واحدة مسيحية تنتمى كلها إلى الطبقة المتوسطة بإستثناء أحدها التى ينتمى رب أسرتها إلى طبقة التجار ورجال الأعمال وقد تميز هذا الجمع بكثرة عدد الأطفال من بنين وبنات وكذلك التقارب العمرى لهؤلاء الأطفال نظراً لأن أعمار أرباب الأسر تتراوح ما بين الثلاثين والأربعين عاماً، هذا التقارب العمرى جعل التآلف بين أطفال العمارة سريعاً والإندماج فى هذا المجتمع يسيراً لذلك كانت الأمانى والأمنيات والأحلام حتى الألعاب مشتركة ومتشابهة. ومن دواعى سرورنا وفخرنا نحن سكان العمارة أنها كانت تحظى بحارس للعقار أو ما يسمى “بواب” وقلما نجد هذه الوظيفة فى المحافظات الصغيرة وإن لم تنعدم، وهذا الوصف الدارج هو ما يطلق على حراس الأبنية، ولكن فى عمارتنا هذه كان البواب أمرأة تقلدت هذا المنصب بعد وفاة زوجها الذى نزح منذ زمن من بلدته فى صعيد مصر، وكانت تدعى “أم شحتة” وكانت لها أبنة تسمى “شحاتة فالأبن شحتة والأبنة شحاتة وهى أسماء مرتبطة بمفهوم قديم ترسخ فى عقول بسطاء أهل مصر أن هذه الأسماء تمنع الحسد وتحفظ أبنائهم من الوفاة صغاراً.

وأم شحته تقيم فى نفس العمارة بغرفة أسفل السلم الصاعد للطابق الثانى ويقيم معها شحتة، أما الأبنة فهى متزوجة وتقيم فى مكان آخر. وكانت أم شحتة أمرأة بسيطة نحيلة القوام ضعيفة البنية عيناها لا تكاد ترى من فرط صغرها وما كانت تضعه من ششم الديك الذى كان متوفراًفى محلات البقالة فى تلك الأوقات. أما عن شحتة فهو فى مقتبل العمر يكبرنا بحوالى سنتين أو ثلاثة على أقصى تقدير أى يبلغ حوالى 15 عاماً، ولم ينل حظ من التعليم، طويل القامة داكن لون البشرة ذو شعر مجعد صعب التصفيف، ذو عينين لامعتين صغيرتين ومستديرتين تلحظ فيهما الصفاء والغباء تارة، والمكر والدهاء تارة أخرى. الحقته والدته فى عدة حرف ولكنه لم يفلح فى إحداها وكثيراً ما كان يصل لأسماعنا صوت شجاره مع والدته بسبب فشله الدائم ومطالبته لها يتزويده بالنقود لينفقها مع أقرانه. ومع هذا فقد كان شحتة محور أهتمام أطفال العمارة كلها بدون استثناء وتمثل هذا المظهر فى تلك الجلابية التى نذرها رجل الأعمال القاطن بالعمارة وتعهد بتفصيلها لشحتة لكى يحتفل معنا بالأعياد. وكم كانت فرحتنا نحن أطفال العمارة بتلك المنحة المقدمة من رجل الأعمال لشحتة مساعدة له. فقد كانت الجلابية محور أهتمامانا وشغلنا الشاغل من حيث لونها وطريقة نقشها أهى مقلمة أو على هيئة مربعات وكيفية تفصيلها أهى ذات ياقة أو بدون وأكمامها مفتوحة أم باساور وهل تحظى بجيوب وسيالة من عدمه وكذلك الخامة هل هى كستور أو صوف.

ويظل كل منا يدلى بدلوه ويحاول أن يقنع الباقين برأيه، والبعض يحاول التجسس ليحظى بمعلومة من أبناء صاحب الهبة أو من أم شحتة أو من شحتة نفسه، لكن هيهاهات فقد كان هذا السر من أعظم الأسرار وأقدسها والحفاظ عليه يتم بكل غال ونفيس. ومع إقتراب المناسبة يزداد شغفنا وشوقنا لمشاهدة شحتة بجلابيته الجديدة. ويصل الشوق ذروته ليلة العيد فنمسى محتضين ملابس العيد وكل فكرنا فى الغد أول يوم العيد وما يحمله من مفاجأة لأطفال العمارة. وصباح يوم العيد نذهب سوياً لصلاة العيد ونعود سريعاً لتناول الإفطار وإرتداء الحلل الجديدة ونجتمع أمام حجرة أم شحتة فى بهو العمارة ونقف على صفين متوازيين من أول الحجرة حتى الباب الخارجى للعمارة مشكلين ما يشبه الممر الشرفى، نقف على أحر من الجمر وبلهفة وشوق ننتظر إطلاله شحتة بحلته الجديدة ومنا ما يغمض عينيه تحسباً للمفاجأة. وتمر الدقائق ثقيلة بطيئة، ولكن ما هى إلا لحظات حتى يفتح باب الحجرة ويطل شحتة برأسه بإنحناءة نظراُ لقصر طول الباب وكأنه ينحنى عندما نبدأ بالتصفيق الحار والصفير وهو يمر بيننا بثوبه القشيب واثق الخطوة يمشى ملكاُ تكسو وجه فرحة بلهاء ويعلو ثغرة ابتسامة طفولية وعيونه تلمع كإنما حيزت له الدنيا ونحن نرمقه بنظرات الإعجاب والود ونتجه إلى خارج باب العمارة حيث كثيراً ما لفت هذا الموكب أنظار المارة وأهالى الحى الذى يتأملونه بإبتسامة واستغراب.

وتكرر هذا الاحتفال لعدة سنوات بنفس الطقوس فى أجواء من الفرح والمرح وقبل أحد المناسبات كنا نستعد كسابق عهدنا للإحتفال حتى إلى ما قبل أسبوع من المناسبة لاحظنا أن هناك شيئاً غير ما ألفناه قبل المناسبات وإزداد هذا الشعور وأخذ فى التصاعد الأمر الذى جعلنا نتساءل لنعرف ما حدث وعكر صفو احتفالنا وكدر فرحتنا. واستطعنا أن نعرف أن أمراً جلل قد حدث فى أهم مظهر من مظاهر الإحتفال وهو “الجلابية”، فبعد استلامها من ترزى الجلاليب الشعبية أصابها أضرار بالغة يصعب معها إصلاحها وترميمها وبالتالى لا تصلح للإرتداء والظهور بها فى هذه المناسبة. وهنا كان يجب أن تكون لنا وقفة إيجابية ولا نكون فقط متفرجين ومهللين، فاجتمعت أنا وأطفال العمارة وقررنا جميعاً أن نشترك فى إحضار جلابية أخرى جديدة لشحتة، فإنبرى كل منا فى إحضار ما أمكنه جمعه من قروش زهيدة حتى تجمع لدينا مبلغاُ من المال يكفى لشراء جلابية جديدة لشحتة جاهزة التفصيل وتم إختيار والدى للقيام بهذه المهمة مع الاحتفاظ بكافة الأسرار التى تحيط بالجلابية حتى لا تفسد فرحتنا وما اعتادنا عليه طيلة سنوات ماضية. وأحضر والدى الجلابية ونحمد الله أنها جاءت مطابقة لمقاس شحتة فعادت الإبتسامة لأم شحتة ونادت على ولدها وبشرته بالجلابية الجديدة بعد أن كان فى حزن شديد وفقد الأمل أن يرتدى جلابية جديدة فى العيد.

وإذا كانت الجلابية تمثل لنا أحد مظاهر الإحتفال بالأعياد فإنها كانت تمثل لشحتة وأمه معانى أخرى، فهى تعنى المشاركة المجتمعية بالنسبة للأم وعدم تحميلها مصاريف ليست فى مقدورها وطاقاتها، أما بالنسبة لشحتة فهى تمثل الستر والدفئ وفرحة العيد ومساواة مع أطفال العمارة والحى، والشكر للمجتمع الذى تكافل وتضامن ولو كان هذا التضامن عبارة عن جلابية يرتديها فى العيد.

مرت السنوات ونحن على هذا الحال إلى أن أذنت الأيام بإنفراط هذا العقد المجتمعى الصغير فى الانفضاض، فكانت أسرة صديقى مصطفى أول الراحلين عن العمارة وكانت وصيته لى فى آخر لقاء أن أحافظ على هذا المظهر الجميل للأعياد، ثم كانت أسرتنا الثانية التى لملمت حاجياتها وأذنت بالرحيل من العمارة، وأستأذنت والدى ونحن نضع ملابسنا فى الحقائب أن أخذ الجلابية التى كانت قد أحضرها لى جدى من الأراضى الحجازية وكانت جديدة أن أذهب لأهديها لشحتة لتكون آخر عهدى بالعمارة هى “جلابية لشحتة” وكانت هذه هى المرة الأولى التي يحظى بها أحد أطفال العمارة منفرداً بسر لون وتفصيلة ونوع قماش جلابية شحتة الأمر الذى جعلنى أشعر بالزهو والتميز على أقرانى من أطفال العمارة الذى كان آخر عهدى بهم وتوصيتى لهم بأن يحافظوا قدر الإمكان على أن يكون في الأعياد “جلابية جديدة لشحتة”.

 

أأ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *