آراء وتحليلات

أبيض وأسود من ذكريات الصبا والشباب

بقلم د. عماد عبد الرؤوف الرطيل

شاء القدر أن تكون دراستى الجامعية ومدة خدمتى بالقوات المسلحة وكذلك حياتى العملية مرتبطة بمدينة القاهرة، وبما أننى من سكان الأقاليم فكانت إقامتى بها ولفترة طويلة فى شقق سكنية مؤقتة، فأحياناً أقيم فى شقة تخص أحد أقرباء زملائى وأخرى يمتلكها أحد أقاربى، أما عدا ذلك فكانت الإقامة بالشقق المفروشة، إلى أن أكرمنى الله أخيراً وأمتلكت شقة خاصة بى والحمد لله. وكانت إحدى محطات هذه الشقق بمنطقة المهندسين بمحافظة الجيزة، شقة صغيرة عبارة عن غرفتان وصالة بالإضافة إلى المطبخ ودورة المياه، ذات أثاث متواضع قديم ولكنه يفى بالغرض المعاشى ومناسب من الناحية المادية. وأول ما لفت انتباهى عندما دخلت الشقة أن هناك قطعتان من الأثاث يختلفان تماماً عن باقى تجهيزاتها ليس لأنهما جديدتان أو من النوع المودرن لكن تكمن الغرابة أنهما قطعتان من النوع الكلاسيك ولا ينتميان لا إلى المكان المتواجدين به ولا إلى أصحاب الشقة الأصليين اللذين كانوا من النوع المتواضع معيشة وذوقاّ.

فالقطعة الأولى عبارة عن كنبة طويلة تكفى لجلوس خمسة أفراد من ذوى الأحجام الكبيرة بدون مضايقة، أو ستة أفراد من الحجم المتوسط دون عناء يكسوها قماش من القطيفة القديمة البالية والذى يدل على ما كانت عليه من فخامة وأبهة وأنها تعود إلى ماضى تليد وعريق ولى منذ زمن صعب تكراره، أما القطعة الثانية فهى تحفة من الموبيليا ذات الأربع أرجل مستطيلة الشكل لها ضلفتان جرارتان تغلق على تليفزيون مقاس 23 بوصة وهو أكبر مقاس يعود إلى فترة السيتينيات من القرن الماضى وهو من النوع ذات المصابيح الثنائية أو الثلاثية أو ما يطلق عليه تليفزيون “لمبات” وأعتقد أن كلا القطعتين تم الحصول عليهما عن طريق الهبة من أحد الأثرياء أو تم شراؤهما من إحدى محلات الأثاث المستعمل على أغلب الظن.

فكانت التسلية الوحيدة فى هذه الشقة بعد عناء يوم عمل طويل وصراع فى المواصلات هو الجلوس على تلك الكنبة الضخمة فى أماكن مازالت السوست الموجودة بداخلها فى حالة جيدة بدلاً من الغوص فى أماكن قوضت فيها السوست من كثرة الجلوس والاستعمال لمشاهدة التليفزيون العجيب ذو الصورة المشوشة الأبيض والأسود والصوت المصحوب بخرفشة اعتادنا عليها ولكنه كان يؤدى بالغرض. مرت شهور على هذا الحال إلى أن حدث ذات أمسية أن أتخذنا وضع جلوس المشاهدة وبدأنا بتشغيل الجهاز الذى أبى أن يستجيب لزر التشغيل وعبثاً ذهبت محاولاتنا أدراج الرياح، ولم تكن مسألة تلف وعطب الجهاز يشغلنى لأننى أستطيع أن أتعايش بدون هذا الجهاز فهو بالنسبة لى غير ذات أهمية وهناك الكثير من الأمور التى أستطيع أنا ومن معى فى الشقة أن نشغل وقتنا بأشياء كثيرة ومفيدة، ولكن المشكلة كانت تكمن فى أن هذه الشقة بمحتوياتها كانت أمانة ولابد من تسليمها كما تسلمناها. وباتت مسألة إصلاحه هى شغلى الشاغل وطرقت كثير من الأبواب وشركات الصيانة ولكن للأسف كان من الصعب إيجاد من يتعامل مع هذا النوع من الأجهزة. فقد غلبت على الأسواق أجهزة حديثة من ذوات المقاومات والألوان والمقاسات الكبيرة، كما أن قطع الغيار بالنسبة لهذا الجهاز أصبحت عزيزة جداً ونادرة وبالبحث الحثيث والسؤال لزملاء فى العمل تم العثور على أحد مراكز الصيانة التى مازالت تعمل على إصلاح تلك الأجهزة.

وذهبت أنا وصديق لى إلى منطقة شبرا، حيث يقع المركز، بعد أن وضعنا الجهاز بصعوبة فى السيارة حتى وصلنا إلى العنوان المشار إليه وأندهشنا أننا لم نجد ما يدل على أن هناك مركزاُ للصيانة فلا لافتة ولا بواجهة تليق بالمركز، ولما سألنا أهل الحى الذين أشاروا إلى أحد أبواب المحال المغلقة اللهم إلا مسافة شبر واحد يفصله عن أرضية المحل وكان هذا محل سيد “الشهير بالمجنون” فتعجبنا من التسمية وشاهد أحد أبناء الحى الحيرة التى ارتسمت على وجهينا فضحك وقال أن هذه التسمية أطلقها أهل الحى على صاحب المحل لغرابة أطواره وبعده عن الناس، ولكن كيف الوصول إليه، فقالوا أطرقوا عليه الباب بعنف حتى يستجيب لأنه دائماً لا يعبء بالعديد من الطرق لكثرة مضايقات صبية وشباب الحى وإتخاذها وسيلة للهو والمناكفة. وتقدمت أنا وزميلى لبدء عملية الطرق ولفت إنتباهى شئ قابع جانب الطوار “الرصيف” أمام المحل ولما تفحصته وجدته دراجة نارية “موتيسكل” متهالكة يعود موديل إنتاجها إلى فترة الأربعينيات من القرن الماضى وتشبه إلى حد بعيد تلك التى كنا نشاهدها فى الأفلام التى تحكى عن أهوال الحرب العالمية الثانية، يعلوه التراب والصدأ من كل جانب حتى تحولت إلى خردة وتساءلت في نفسى عن جدوى وجودها.

بدأنا فى الطرق على الباب الصاج بقوة حتى سمعنا صوت ذات حشرجة يستعلم من الطارق فقمنا بتعريف أنفسنا ولما أطمأن لنا قام برفع الباب بصعوبة مصحوباً بصرير وضجة شديدة لمسافة متر ونصف تقريباً ثم مد يده يتناول من الجهاز ثم أنحنينا ودخلنا إلى المحل وقد هالنى ما رأيت فمساحته كبيرة وارتفاع السقف شاهق وكان لزاماً علينا أن نسير فى ممر إتساعه 40 سم وعلى جانبيه يميناً ويساراً تلال من الشاشات والشاسيهات لأجهزة قديمة تذكرت وقتها ما حدث لسيدنا موسى عندما ضرب البحر بعصاه فكان كل فرق كالطود العظيم مع الإعتذار عن التشبيه. وفى نهاية الممر وضعنا الجهاز على طاولة مستطيلة عليها كم من العدد وبقايا الأجهزة، وبقايا الطعام أيضاً وأباجورة عتيقة بها لمبة يكاد نورها يبدو بصعوبة من تحت كمية الأتربة الموجودة عليها ومروحة ذات ريش ثلاث كأنها مطحنة مع أن سرعتها منخفضة جداً.

أما عن المهندس “سيد” فهو ضخم الجثة كث اللحية والشعر الغير مهندمين ومشذبين لم ينطق بكلمة واحدة، أخذ يشرع فى إصلاح الجهاز ومهما حاولنا محادثته لم يلتفت لنا، كنت أتمنى ساعتها أن يكون معى كاميرا لأسجل هذا الحدث الفريد من نوعه فالمكان أشبه بكهف أو مغارة تصلح مأوى للخفافيش، رائحة الغبار تزكم الأنوف وخيوط العنكبوت تتدلى بكثافة من سقف المحل، أنواع كثيرة ومتعددة من أجهزة التليفزيون يصعب حصرها.

مرت الدقائق متثاقلة كئيبة وأمدت لحوالى الساعتين حتى بدأت ملامح الإصلاح تبدو أولاً بإنارة الشاشة وشيئاً فشيئاً بدأت الصورة فى الظهور وتلاها الصوت اللذان مع الوقت اذدادا وضوحاً حتى عاد سيرتهما الأولى فحمدت الله أنه تم إصلاحه، وهنا بدأنا نسمع وللمرة الثانية صوت المهندس “سيد” الذى همهم بصوت خفيض قائلاً “لا أستطيع فعل شئ أكثر من هذا” فشكرناه على هذا الجهد وطلبنا منه أن يقيم لنا مجهوده حتى نستطيع أن نوفيه حقه وهنا ظهرت ابتسامة احترت فى تفسيرها هل هي بلهاء وساذجة، أم ماكرة خبيثة. المهم أعفيته من الحرج وأعطيته مبلغاً أعتقد أنه أكبر مما يستحقه نظراً لدوره فى إعفاءنا من حرج تلف وعطب التليفزيون. فشكرنا وهممنا بالإنصراف من حيث أتينا حاملين معنا الجهاز وبنفس طريقة دخولنا خرجنا من هذا القبو الكئيب.

وحال خروجنا خرج فى إثرنا المهندس “سيد” الذى أغلق الباب الصاج الضحم بقوة وعنف أحدث معه صوت فرقعة شديدة. كل هذا كان منطقياُ وطبيعياً ومتوقعاً نظراً لحالة الباب وغرابة صاحبه. ولكن الأعجب ما حدث بعد ذلك حيث رأيته يتجه إلى كومة الحديد المتهالكة والتى هى بقايا دراجة نارية وأخذ يعدل من وضعها ويدوس على البدال مرتين وثلاثة، وإذ هى بقدرة قادر تدور وتملأ المكان ضجيجاً وسحب من الدخان تنبعث من ماسورة العادم ثم ما لبث أن قفز عليها ببراعة فائقة ثم يكبس يديه بقوة على ذراع البنزين فانطلق بها بسرعة الصاروخ وسط ذهولى وإندهاشى أنا وصديقى حتى كاد الجهاز أن يفلت من بين أيدينا ولما أفقنا وضعناه داخل السيارة وأنطلقنا عائدين إلى المنزل فى صمت مطبق وذهول شديد متساءلين كيف لقطعة الخردة هذه أن تدور وتسير بهذه الكيفية ولكن لما لا فكم من الغرائب لا تأتى إلا من أوناس بهم مس من الجنون كالمهندس “سيد” الذى إعاد تليفزيون اللمبات إلى الحياة وأدار الدراجة النارية من عدم وممات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *