آراء وتحليلات

أيام وليالى رمضان

بقلم د. عماد عبد الرؤوف الرطيل

دكتوراه الآثار الإسلامية

كلية الآثار جامعة القاهرة

 

تنفرد مصر عن بقية العالمين العربى والإسلامى بأجواء خاصة لشهر رمضان الكريم نظراً لما تحتفظ به من موروث اجتماعى ودينى أمتزجا ببعضهما على طول تاريخها وأخرج لنا شهراً يعد فعلاً أميز وأمتع وأروع شهور السنة. فإحتفال المصريين بقدوم الشهر الكريم يبدأ قبيل قدومه بأسابيع فى أيامنا هذه، أما فيما سبق فكان الإستعداد يتم قبله بعدة أشهر وهذا الاختلاف مرجعه إلى الإمكانيات المتاحة لكل زمان، فعلى سبيل المثال كانت المساجد فى الماضى سواء فى القاهرة أو المدن الكبرى يعاد طلاء واجهاتها وتجديد الفرش من سجاد وحصر وإعداد القناديل اللازمة للإنارة وكذلك الشموع المتنوعة الأحجام والتى يؤتى بها من سوق الشماعين بمنطقة النحاسين، وكانت تؤدى نفس الغرض التى تقوم بها الكهرباء فى زماننا من إضفاء نوع من البهجة تزيد من بهاء وسحر بيوت الله.

أما عن البداية الفعلية لشهر الصوم فتكون من ليلة الرؤية التى كانت تعد من أعظم الاحتفالات ولم يحظ أى شهر من شهور السنة برؤية هلال بدايته سوى شهر رمضان المعظم. ويذكر المؤرخون أن أول من خرج لرؤية هلال رمضان كان القاضى “أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة” فى عام 155 هجرية، ثم أصبحت عادة منذ ذلك التاريخ حيث يعد الاحتفال برؤية الهلال من أعظم وأجل الاحتفالات وذلك بخروج قاضى القضاة بصحبة قضاة المذاهب الأربعة ولفيف من الشيوخ والعلماء فى الإتجاه صوب تلال المقطم ليستطلعوا الهلال رؤى العين من أعلى مكان والذى أعدت به ما يسمى “دكة القضاة”.

وما أن يثبت هلال شهر رمضان حتى يندفع المصريون إلى الأسواق قديماً والمولات حديثاً لإبتياع حاجيات رمضان وعلى رأسها “الياميش”، وهى كلمة تركية تعنى الفواكه المجففة وأطلقها المصريون على الأنواع الأخرى كاللوز والبندق وعين الجمل والقراصيا والزبيب، وكانت تسمى عندنا “النقل” وقديماً كانت وكالة قوصون بشارع باب النصر هى المختصة ببيع كل هذه الأصناف ثم إنتقلت بعد ذلك إلى الجمالية، أما الآن فهى منتشرة فى جميع المحلات والمولات.

ولعل من أشهر ما يتميز به شهر رمضان وصار وقفاً عليه وهو “فانوس رمضان” الذى يعد أحد المظاهر الشعبية فى مصر. وكلمة “فانوس” إغريقية الأصل وتشير إلى إحدى وسائل الإضاءة. وتباينت أراء المؤرخين فى توقيت معرفة المصريين للفانوس فمنهم يرجعه إلى العصور المصرية القديمة ودللوا على ذلك بأن الكلمة ذكرت فى أكثر من موضع بالنصوص القديمة، وأوضحوا أن أقباط مصر كانوا يطلقون أسم “فانوس” على أطفالهم ومازال حتى اليوم ولكن بصورة أقل. أما الفريق الآخر فيرى أن معرفة “الفانوس” جاءت مع قدوم الفاطميين ودخول المعز لدين الله القاهرة واستقبال أهلها له بالمشاعل والفوانيس.

ولم يقتصر الأمر على حمل الفوانيس بل صاحب ذلك كثير من الأهازيج والأغانى اللطيفة التى جرت على ألسنة الأطفال عند خروجهم بالليل حاملين فوانيسهم ويطوفون على المحلات ويطرقون الأبواب لإلتماس الحلوى والنقل ولعل من أجمل تلك الأهازيج ما كان يرددوه مثل “وحوى ياحوى…، وحاللو يا حاللو…” وأياما كانت الأراء التى ترجع بعض هذه الأغانى إلى عصور مصر القديمة، فإنها باقية للآن فى وجدان الشعب المصرى وخاصة الأطفال.

وإرتبط بالفانوس وظيفة كانت تظهر فى شهر رمضان وتختفى فى نهايته ألا وهى “المسحراتى” التى كانت فى الأغلب الأعم يقوم بها أحد أفراد من أهل الأحياء لمعرفته بسكانهم ليردد أسمائهم ويعمل على إيقاظهم للسحور، وكان يلازم المسحراتى طفل صغير حاملاً فانوس لإنارة الطريق.

ويحظى شهر رمضان بمجموعة من أطايب الطعام وخصوصاً الحلوى التى أصبحت وقفاٌ عليه وأهمها “الكنافة والقطايف والخشاف” وخلافه وبلغ من شدة ولع المصريين بهذه الأنواع من الحلوى أن المؤرخ الشيخ “جلال الدين السيوطى” ألف أرجوزة لطيفة سماها “منهل اللطايف فى الكنافة والقطايف” وتبارى الشعراء فى إفراد قصائد تمدح وتعدد فى صفات كلاً من الكنافة والقطايف.

ومن المظاهر أيضاً التي يختص بها الشهر الفضيل هي “مدفع رمضان” وهناك ثلاث روايات تحكى بداية انطلاق المدفع تختلف في أزمنة وقوعها وتشترك في خاصية واحدة ألا وهى الصدفة، فأول هذه الروايات ما حدث في زمن السلطان المملوكى خشقدم عندما أراد تجربة مدفع جديد وتصادف أنه أول يوم رمضان وقت غروب الشمس فوقع الإنفجار فظن الناس أنه تقليد جديد لإعلان وقت الإفطار، ومن ثم تم إطلاقه أيضاً وقت السحر. الرواية الثانية على عهد محمد على الذى أشترى عدد كبير من المدافع فأراد تجربة أحدها فحدث نفس ما حدث أيام خشقدم. أما الثالثة فكانت على عهد الخديوى إسماعيل وحدث نفس الأمر ولكن الجديد أن الأميرة فاطمة كريمة الخديوى إسماعيل استحسنت الأمر فأمرت أن يكون إطلاق المدفع في ربوع المحروسة كلها ومن الطريف أنه عرف منذ ذلك التاريخ “بمدفع الحاجة فاطمة”.

ولم يقتصر الأمر على تلك المظاهر التى فى أغلبها الطعام والشراب ولكن كان للذكر والأنس والمودة نصيب كبير، فكانت الليالى الرمضانية يحييها علية القوم فى منازلهم بالمنشدين وكبار المطربين والمداحين ويرتادها العوام من أفراد الشعب. كما كان حى الحسين يحظى بكبار المنشديين والقراء بما يضفى أجواء روحانية وتشيع جواً من البهجة يروح عن الناس وينسيهم متاعب الحياة. ولازالت تلك الأمسيات تقام حتى الآن فى عصرنا الحاضر وتتبنى وزارة الثقافة “ليالى رمضان” ويتم احياؤها بمنطقة القلعة ويشترك كبار المطربين والمداحين فى إحياء تلك الليالى.

ولعل آخر ما أذكره من مظاهر رمضان ولا يفوتنى التنويه عنه هو “قهوة الفيشاوى” ذات الماضى العريق سواء فى رمضان أو غيره من أوقات السنة، وإن كان يتميز فى رمضان بأنه كانت تعقد فيه جلسات للسمر تضم الفكاهة والغناء.

كل هذه المظاهر لفتت أنظار الرحالة الأجانب وجذبهم سحر شهر رمضان وأفاضوا فى ذكر ما شهدوه من حب وتعلق المصريين به، وسجلوه فى كتاباتهم لتصبح جزءاً من تاريخ ذلك البلد العريق بقلم وفكر وعقول محايدة أبهرتهم روعة مصر بتاريخها وحاضرها المجيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *