أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: عناق الموت





نشر في:
الإثنين 15 يناير 2024 – 6:36 م
| آخر تحديث:
الإثنين 15 يناير 2024 – 6:36 م

حرب غزة ستكون بلا جدال نقطة تحول ضخم فى القضية الفلسطينية ولن تعود المنطقة لما كانت عليه.
أطل علينا عام 2024 بمزيد من الصور الحزينة والمناظر المؤلمة للحرب الإسرائيلية على أبناء غزة والشعب الفلسطينى عموما وكل من يسانده فى محنته غير المسبوقة فى تاريخ قضايا التحرر الوطنى، وأصبحنا أمام مشهد مروع للخيط الرفيع بين الحياة والموت حتى إن مراسلا صحافيا عربيا فقد أسرته بالكامل تقريبا وظل يثابر فى مواصلة عمله الشريف للكشف عن جرائم إسرائيل التى لطخت جبين الإنسانية لفترة طويلة، امتلأت فيها أرض فلسطين بالأشلاء والدماء والضحايا من المدنيين الأبرياء حتى كاد عدد القتلى يقترب من عدد الأحياء فى كل أسرة فلسطينية وربما يزيد.
إنها مأساة العصر وجحيم يكتوى بناره الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم من المشردين خارج بيوتهم والنازحين من مكان إلى مكان، وكأنما كتب عليهم الترحال اليومى فى ظل ظروف قاسية بسبب تدنى الخدمات الصحية وغياب المواد الغذائية، فضلا عن برودة الطقس والحياة فى العراء.
لقد قررت شخصيا ألا أعير انتقادات الغرب، وفى مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، لانتهاكات حقوق الإنسان فى بلادنا والاتهام المستمر لنا بالمضى فى خروقات فى هذا الشأن بعد أن شهدت ردود الفعل الغربية الرسمية التى لم تحرك ساكنا أمام جرائم إسرائيل، بل غطتها واشنطن باستخدام «الفيتو» عند اللزوم.
لقد أصبحنا أمام مشهد عبثى بالكامل لا يسمح أبدا لأصحاب سياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين أن يتحدثوا مرة أخرى عن حقوق الإنسان فى بلادنا، وأنا لا أزعم أنها مثالية، ولكن مقارنتها بمجازر غزة و«الهولوكوست» الجديد الذى يعاد تكراره بسيناريو مشابه لما جرى فى الحرب العالمية الثانية ضد اليهود على يد النازية وكأنما تريد إسرائيل أن تنتقم لضحاياها ممن لا ذنب لهم ولا جريمة عندهم، ولكنها غطرسة إسرائيل وشهوة القتل واصطياد البشر بصورة جماعية تقترب من مواسم اصطياد الطيور والحيوانات البرية، وهى أمور قد تبدو مفزعة لبعضهم، فما بالنا إذا كانت ممارستها تتم داخل الغابة البشرية الجديدة التى افترس فيها جيش الاحتلال عشرات الألوف من أبناء الشعب الفلسطينى الذين يدفعون أغلى فاتورة بالدم البشرى فى القرن الـ21.
هنا يتعين علينا أن نسجل عددا من الانطباعات التى نخرج بها من مأساة الحرب على غزة وأبناء فلسطين الذين لم يبخلوا بالتضحيات وصمدوا صمود الأبطال، فأحزان فلسطين ستبقى دائما وصمة عار على جبين الحضارة الغربية والثقافة الأوروبية ــ الأمريكية التى جاءت لنا بمن تجردوا من المشاعر الإنسانية والدوافع الأخلاقية، ونوجز تلك الانطباعات فى ما يلى:
أولا: إن حرب غزة الأخيرة ستكون بلا جدال نقطة تحول ضخم فى القضية الفلسطينية ولن تعود المنطقة لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر عام 2023، وهنا لا أدعى أن الفلسطينيين كانوا يعيشون برفاهية واستقرار قبل «طوفان الأقصى»، بل الثابت والمؤكد أنهم عانوا كما لم يحدث لغيرهم من قبل، فهدمت إسرائيل المنازل على رءوس سكانها وابتدعت نظرية جديدة فى الإعدام بالشوارع وكان ذلك كله فى وقت انفض كثير من العرب عن القضية الفلسطينية وفقد غيرهم حماستهم لها.
لقد كشفت أحداث غزة الأخيرة عن التحولات التى طرأت على سياسات بعض الدول التى كانت مؤيدة بصورة كبيرة للقضية الفلسطينية، وأتذكر الآن آخر مرة زرت فيها العاصمة الهندية عام 2003 وكانت بوادر التحول الهندى والاقتراب من إسرائيل ظهرت ووقتها التقيت المسئولين الدبلوماسيين الهنود الذين أعرفهم منذ خدمت هناك خلال الفترة من عام 1979 حتى عام 1983 دبلوماسيا فى السفارة المصرية.
أتذكر أن الهند فى ذلك الوقت عندما كنت أعمل هناك كانت داعمة بشدة للحقوق الفلسطينية، وقال لى أصدقائى الهنود خلال زيارتى الأخيرة تلك إنهم وجدوا أنه لا يمكن أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وما دامت بعض الدول العربية تبادلت السفارات مع إسرائيل، فلماذا لا تتعاون الهند معها تكنولوجيا وفنيا وعسكريا؟ وهذا ما حدث خلال الأعوام الأخيرة، إضافة إلى التحول فى السياسة الهندية عموما فى الفلسفة الحالية للدولة الهندية التى تتسم بنزعة عنصرية (هندوكية) لم تكن بالوضوح الذى هى عليه الآن، فلكل دولة ظروفها وحساباتها وأهدافها.
ثانيا: إن القضية الفلسطينية هى بحق قضية الفرص الضائعة، فلقد أضعنا نحن العرب بعضا منها وربما كان معنا الحق، فعروض إسرائيل دائما غامضة وسياساتها سيئة النية تعطى باليمين وتأخذ بالشمال. نعم، إن رفضنا لقرار التقسيم عام 1947 ربما كان خطأً وقعنا فيه ولكن الحقائق لم تكن واضحة ولا الأمور مستقرة.
أتذكر من تجربتى الشخصية عام 2000 أننى كنت المساعد الأول لوزير الخارجية المصرى والمسئول عن ملف القضية الفلسطينية وجرت وقتها محادثات ياسر عرفات وإيهود باراك التى انتهت برفض العرض الإسرائيلى للسلام الذى لم يكن واضحا، بل كانت خرائطه غامضة.
كما أتذكر الآن أن المرة الأولى التى سمعت فيها تعبير «القضية الفلسطينية هى قضية الفرص الضائعة» كانت من وزير الخارجية الإسرائيلى الأسبق أبا إيبان عندما ذكرها فى محاضرة هى الأولى من نوعها عام 1977 فى النادى الدبلوماسى المصرى بالقاهرة، وكان ذلك أمرا غير مسبوق ولكن أبا إيبان استطرد فى تذكير الحاضرين ببعض المحاور المفقودة فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى التى أدت إلى ما آل إليه.
وأتذكر اليوم الدعوة التى تلقتها مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة الأمريكية لحضور مؤتمر «مينا هاوس» عام 1978، ولكن غياب المنظمة جعل مقعد فلسطين خاليا وأجهض احتمال تحقيق أهداف كان يمكن أن تكون فرصة مبكرة لإرهاصات السلام بين إسرائيل والعرب.
ثالثا: إن المقاومة الفلسطينية الباسلة للاحتلال الإسرائيلى أصبحت الآن رقما صعبا فى مواجهة سياسات إسرائيل بجوانبها العنصرية والعدوانية والاستيطانية، ولم يعُد من الممكن تجاهل الشعب الفلسطينى واعتباره سلعة قابلة للتداول عند اللزوم، بل تجسدت من خلال المقاومة شخصية الشعب الفلسطينى بتاريخه وتراثه وبتضحياته وصموده، وأضحت الدولة الفلسطينية المستقلة مطلبا يطالب به الجميع حتى فى الولايات المتحدة الأمريكية وتؤيده العواصم الغربية ويسعى الجميع من أجله، باستثناء واحد هو بنيامين نتنياهو الذى لا يؤمن بالشعب الفلسطينى ولا يعترف إطلاقا بحقوقه ويتوهم أن أوهام القوة ستصنع له يوما الانتصار، وهو ما لم يحدث حتى الآن ولا أظن أنه سيمكن أن يأتى يوم تتحقق فيه أحلام نتنياهو واليمين الإسرائيلى المتطرف وغطرسة المستوطنين هناك الذين يعتمدون جميعا على جبروت القوة المستمدة من تكنولوجيا السلاح لإرهاب الآمنين وترويع المواطنين والعبث تماما بخريطة الأراضى الفلسطينية، متصورين أن الحقوق يمكن أن تضيع وأن النضال توقف يوما ما، وهو ما لم يحدث لأن الشعب الفلسطينى عصى على الاندحار ولن يركع أبدا لأحلام الاحتلال، ولكنه يسعى إلى السلام العادل الشامل ليقيم دولة فلسطينية مستقلة على ترابها الوطنى بعاصمة مستقلة فى القدس الشرقية.
سوف تحتفظ الذاكرة الإنسانية بالمشاهد الأليمة والأحداث المروعة التى تابعناها جميعا من كل أصحاب الملل والنحل والأعراق والأجناس فى فزع مما يجرى وتشاؤم ليس فقط حول مستقبل الصراع، ولكن ربما حول مستقبل الإنسانية كلها وحال التغول التى تصيب بعضهم على حساب الغير، ونحن نتطلع جميعا إلى مستقبل أفضل للجنس البشرى يوم أن تختفى المظالم وتتوقف المدافع ويسود السلام على الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *