أخبار مصر

نورا ناجي: تفجير الكنائس أوقعني فريسة للقلق والاكتئاب.. وتعافيت بكتابة «بنات الباشا»

♦ على الكاتب أن يملك موقفا حتى لو كان مسالما أو لا يهوى الدخول فى المعارك
♦ أجد منْفذى فى الكتابة وهى درعى وحاميتى
♦ الجوائز دفعة معنوية طيبة وأحيانا تمثل حبل إنقاذ لكاتب شاب يتمنى أن يقرأ له ولو شخص واحد
♦ لا شيء يقيّدنى أو يحكمنى فى الكتابة.. وأضع نفسى تحت تصرف القلم وأترك أفكارى تنساب ببساطة
♦ الفن مؤثر قوى والطغاة يدركون ذلك ويخافون

حكايات عشر نساء يتحدثن عن القهر والكبت، والمرض والموت، والحب والخيانة، وأمور أخرى تتناولها رواية «بنات الباشا»، للكاتبة والروائية نورا ناجى، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، والتى تقتحم فيها عدة مناطق من المسكوت عنها فى مجتمعنا، بطريقة مكثفة وكتابة إنسانية عميقة، فى نصّ ثريّ، مُفعم بالحيوية، لتروى حكايات متخمة بالوجع والألم عن نساء، لا تملك إلا التعاطف معهن؛ باعتبارهن ضحايا لمجتمع يفتقر ويفتقد إلى الإنسانية إلى أبعد مدى.

وفى حوارها لـ «الشروق» تتحدث نورا ناجى عن مؤلفاتها الأدبية وفعل الكتابة وكيف كان مُنقذها من براثن الاكتئاب، وتحكى عن طرف الخيط الذى قادها إلى تأليف «بنات الباشا»، والتحديات التى واجهتها فى تناول كل شخصية بأدق تفاصيلها النفسية، وكيف توفر الذاكرة والتجارب الحياتية للكاتب مساندة فى رسم عوالمه، وما العالم الذى تستمد منه شخوص كتابتها، وغير ذلك فى ثنايا الحوار التالى:

♦ بداية حدثينا عن طرف الخيط الذى قادك إلى «بنات الباشا» واختيارك لتناول مجتمع نسائى مغلق؟
ــ الكتابة معقدة جدا، فى لحظة أكون بعقل خاوٍ تماما، لا أفكار تلح عليّ ولا ملاحظات ذات قيمة، وفى اللحظة التالية، أصادف مشهدا فى الشارع فتنبعث الفكرة فى عقلى. يحدث ما يشبه الانفجار، لكنه انفجار لذيذ وممتع، لقطة واحدة تجعل الكاتب يرى تفاصيل كثيرة.
وفى هذا اليوم من عام 2016، رأيت من شرفة عالية فى بناية مقابلة لمعهد الأورام فى طنطا، طفلة من الأطفال الذين يتلقون العلاج هناك، تلعب مع رجل خمنت أنه جدها. كان الجد يبتسم ويجرى خلفها، يتجاهل شعرها القصير وشحوب وجهها أو ربما يتحايل على المرض كله، يتناساه ليجعلها تنسى، وأنا فى هذه اللحظة كنت هشة جدا، وكنت أشعر أن جسدى مصفاة تمر من خلالها آلام العالم، تمنيت أن يمنحنى الله قدرة خارقة هى امتصاص الألم من المعذبين فى العالم، ولم أفكر إلى أين سيذهب هذا الألم، هل سيختفى أم سأحمله أنا على ظهري؟ كان العالم قاسيا جدا لحظتها وكنت أنا أقسى على نفسى.
هذا المشهد وهذه الفكرة لم يكنا البداية، لكنهما امتزجا بشكل ما فى موقف آخر كنت فيه فى مركز التجميل المجاور لبيتى، أجلس كزهرة حائط أتأمل المرتادين، أتأمل العاملات والعاملين، شكل الديكور وتنظيم الدخول والخروج والمهام. وفكرت أنه ثمّة عالم متخفٍ هنا، ثمّة ألم أيضا من نوع آخر، ألم السعى إلى الجمال، وألم الانكشاف وألم الشك وألم الثقة وألم الحب وألم العزلة. بدأت القصص فى الانبثاق فجأة، وبدأت أستعيد وجوه قديمة لنساء وفتيات عرفتهن منذ المدرسة الابتدائية إلى هذا العام. كانت تجربة مرهقة وجميلة، لكن هكذا هى الكتابة.

♦ ولماذا اختيار تقنية كتابة «رواية شخصيات» والتحديات التى واجهتك فى تناول كل شخصية بأدق تفاصيلها النفسية؟
ــ أعتقد أننى من المتحيزين لتقنية الأصوات وكذلك تقنية الشخصيات (البورتريهات)، لا أعرف السبب تماما لكنى أميل لتشريح الشخصيات والتأمل فى المصائر وكذلك فى التغيرات التى يمكن أن تحدث للإنسان بمرور الزمن. فى بنات الباشا واجهت تحديات نفسية أكثر، لأننى تقمصت كل شخصية طوال فترة كتابتها ما جعلنى أنحت من روحى وأستهلك نفسى، ملاحظاتى ساعدتنى كثيرا كذلك ذاكرتى القوية فيما يتعلق بالصفات الإنسانية، طريقة الكلام والحركة وارتداء الملابس ووضع الماكياج، كنت أتحول فى كل فصل إلى صورة من الشخصية، ويمكن للقارئ تخيل كيف يمكن أن يسبب لى هذا المشاكل.

♦ هل مهمة الكاتب الكشف عن القضايا المسكوت عنها؟
ــ طبعا. على الكاتب أن يملك موقفا، حتى لو كان مسالما أو لا يهوى الدخول فى المعارك الكبيرة مثلى. أنا أجد منفذى فى الكتابة، هى درعى وحاميتى، وعبرها أتمكن من التعبير عن رأيى وإبداء موقفى الحقيقى وربما الانحياز إلى جانب ما. أحافظ فى نفس الوقت على مسافة كافية لرؤية الصورة كاملة، وشجاعة كافية أيضا للكشف عن قضايا حساسة فى بعض الأحيان.

♦ لماذا اعتبرتِ «بنات الباشا» بمثابة علاج نفسي لك؟
ــ لأننى مررت وقتها بظرف صعب، من صدمات كثيرة متتالية كان آخرها انفجارى طنطا والإسكندرية فى كنيستى مار جرجس ومار مرقص، المشاهد والحكايات والاضطراب والدهشة المصاحبة للانفجارين هزتنى، هزنى أيضا مشهد الطفلة لوسيندا التى ماتت أمام أمها، كان يمكن أن أكون مكان هذه الأم، ما الفرق؟ فرق توقيت ومكان ودين؟ لا فرق فى المآسى. كانت الأفكار تأكلنى، وسقطت فريسة للقلق والاكتئاب حتى قررت الذهاب إلى الطبيب النفسى والبدء فى تمارين كتابة قادتنى إلى كتابة هذه الرواية.

♦ للذاكرة والتجارب الحياتية للكاتب جزء كبير فى عملية الكتابة.. إلى أى حد أفادك ذلك فى رسم عوالم الرواية؟
ـ أستعين فى معظم الوقت بذاكرتى وتجاربى الشخصية. لا يعنى هذا أن على الكاتب نقل واقعه فقط، الاستعانة بالتجارب قد تكون شعورية، مجرد إحساس مر فى موقف مختلف لكنه صالح لوصف مشاعر الشخصية فى مشهد. أستعين أحيانا بالشكل الخارجى لشخص عرفته ذات يوم، ربما نبرة الصوت أو تسريحة الشعر أو طريقة التعامل لأتمكن من بناء الشخصية فى عقلى وتقمصها، فى بنات الباشا تذكرت بيتنا القديم والسوق أسفله والبائعات الكثيرات اللاتى كنت أراقبهن من الشرفة، وتذكرت أيضا زميلة فى الفصل فى المدرسة الابتدائية كانت تجلس دائما وحدها فى المقعد الخلفى، مزجت كل هذا بتجارب حدثت لى ومواقف تخيلتها وحكايات سمعتها لأتمكن من نسج هذه الرواية بصبر ومتعة.

♦ تدور الرواية فى مدينتك.. هل للأماكن سطوة تثير غرائز الكاتب على الكتابة؟
ــ بالنسبة لى على الأقل، أعتقد أن رواياتى دائما ما تركز على المكان والزمان، أحب رصد التغييرات التى تحدث فى الإثنين، لأننى أتابعها بدقة فى حياتى العادية أيضا. الأماكن ملهمة، وتفاصيل كل العناصر يمكن أن يكتب عنها آلاف القصص.

♦ تشاركين أصدقاءك بتفضيلاتك فيما تقرأين.. ما مواصفات العمل الجيد من وجهة نظرك؟
ــ أن يمنحنى شيئا لم أكن أعرفه أو أنتظره. أن يدفعنى للتأمل فى تفصيل ما. أن يمنحنى ساعات من المتعة والدهشة، أن يجعلنى أبتسم، أخاف، أتوتر، أبكى. أحب الأعمال التى تهز مشاعرى. حتى لو كانت بعيدة عن اهتماماتى. أقرأ هذه الفترة كتاب اسمه «تراتيل ثعابين البحر» للكاتب السويدى باتريك سفينسون، الكتاب بالفعل يتحدث عن ثعابين البحر ورحلتها وأطوارها وتغيراتها والغموض الذى حيّر العلماء ورحلتها فى المحيط. لكنى توقفت أمام جملة تقول: «هذا هو ما يمكن أن يعلمنا إياه ثعبان البحر، إنه يخبرنا شيئا عن فضول البشرية، وعن حاجتنا التى لا تقهر إلى البحث عن الحقيقة وفهم من أين يأتى كل شيء وما يعنيه».

♦ هل تتفقين مع القول إن الأعمال الأدبية خاصة الرواية أصدق فى التأريخ للأحداث من الكتب التاريخية؟
ــ الكتب التاريخية بالتأكيد أدق، وأحب استقصاء المعلومات منها بالذات عندما أكتب عن فترة زمنية حقيقية وشخصيات حقيقية. لكن الرواية هى الأكثر تأثيرا، وهى التى تصل لشريحة أكبر من الناس، يقلقنى فقط أن الروايات بها جزء كبير خيالى، وعلى المتلقى استيعاب التفريق بين الخيالى والواقعى، استمتع بالرواية لكن أعود فى النهاية إلى المصادر.

♦ فازت «أطياف كاميليا» بجائزة يحيى حقى ووصلت «بنات الباشا» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس.. ما الذى يمكن أن تضيفه الجوائز للعمل وللكاتب؟
ــ هى دفعة معنوية طيبة، وأحيانا تكون بمثابة حبل الإنقاذ لكاتب شاب يتمنى أن يقرأه ولو شخص واحد. ويتحقق ذلك بالترشح لجائزة. الجوائز مهمة عندما ننتهى من كتابة رواية أو كتاب، لكنها لا يجب أن تكون المسعى أو الغاية. نكتب من أجل الكتابة فقط وليس من أجل أن تليق كتابتنا بجائزة.

♦ ما هو العالم الذى تستمدين منه شخوص أعمالك؟
ــ عالمى.. حياتى ومشاهداتى وقراءة صفحات الحوادث ومتابعة قسوة العالم ومباهجه أيضا. أصدقائى ومعارفى والناس فى المواصلات وعلى المقاهى وفى السوبر ماركت. أحب التأمل فى حياة البشر العاديين، واكتشاف الفرادة التى تميّز شخصا عن آخر.

♦ قدمتِ فى «الكاتبات والوحدة» تجربة جديدة لقراءة الذات عبر حياة الآخرين.. من فى بطلاتك كانت الأكثر إرهاقًا؟
ــ الإجابة بالتأكيد هى أروى صالح، أحيانا أندم لأننى سيطرت على نفسى فى مواضع كثيرة ومنعت كلماتى من التدفق بغضب أكبر، حياة أروى صالح مؤثرة وملهمة، روحها تعذبت كثيرا، شعرت بهذا التمزق أثناء الكتابة لدرجة كبيرة.

♦ ما العوامل التى تحكمكِ فى الكتابة.. ومتى تقررين أن هذه الفكرة تصلح لعمل أدبى وغيرها لأ؟
ــ لا شيء يقيّدنى أو يحكمنى فى الكتابة، أضع نفسى تحت تصرف القلم، وأترك أفكارى تنساب ببساطة مع دقات أصابعى على لوحة المفاتيح. أحيانا يسيطر عليّ النص ولا يتركنى إلا بعد كتابته، وأعرف أن الفكرة صالحة عندما أضبط نفسى أفكر فيها طوال الوقت، حتى أثناء النوم. يظل عقلى منتبها وأستيقظ وكأننى لم أنم. وقتها أستسلم للكتابة.

♦ يقول الأديب بهاء طاهر «الرواية فن له مكانته وخطره فى المجتمعات التى تحترم أدباءها وتصغى إلى الرسائل التى يبثونها عبر أعمالهم.. إلى أى مدى تتفقين مع تلك العبارة؟
ــ أتفق تماما، روايات خالد الحسينى هزت العالم وعرفته على الممارسات الوحشية فى وطنه أفغانستان، الروايات كانت بوابة لكل حالم فى السعى إلى عالم افضل من جيفارا إلى ملالا يوسف. الروايات أحيانا ما تقيم ثورات أو تثير قلائل. الفن بشكل عام هو المؤثر الأقوى، حتى الطغاة يدركون ذلك، هتلر استخدم الفن لإحكام سيطرته، ورواية مثل حب فى المنفى لبهاء طاهر ستظل باقية لأجيال كثيرة يتعرفون من خلالها على الجرائم التى ارتكبت فى حق الشعب الفلسطينى، وغيرها الكثير.

♦ ما هو مشروعك الأدبى الجديد؟
ــ أعمل على رواية جديدة، لا يمكن الحديث عن رواية تُكتب، أشعر أننى أفقدها بشكل أو بآخر، لكن يمكن أن أقول إنها تدور فى العالم الذى أحبه، استبطان الإنسان، أو محاولة فهمه، ما حدث لجيلى بالذات فى العشر سنوات الأخيرة.

نورا ناجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *